الحبّ.. وجان بول سارتر

التناقض وحده هو الذي يميز الإنسان عن حجر الطاحون… صوت الشاعر يحمل كل تموجات الحياة والمجتمع والتاريخ… لماذا أنا متناقض ؟ لأنني أقدم لكم مجموعة من الانفجارات على شكل قصيدة.. ولا أقدم لكم بنود الموازنة العامة.. إذا حاولت حبيبتي أن تكتم أنفاسي بشعرها الليلي الطويل.. خرجت بمظاهرة احتجاج ضد اللون الأسود…

«نزار قباني»

 

 المفكر والفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) في كتابه المثير الضخم (الوجود والعدم ـ بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية) (ت: عبد الرحمن بدوي)، في معرض حديثه عن العلاقات العينية مع الغير والموقف الأول تجاه هذا الغير: الحب، تعذيب الذات.. قال بلغة خبرية تقريرية تعميمية صارمة لا ريب فيها: (كل ما يصدق عليّ يصدق على الغير).

 في هذا القول (اليقيني) المطلق خرج جان بول سارتر من الحقل المعرفي والعلمي والمنهجي، ودخل دائرة الوهم والخطأ والحكم غير الموضوعي، وأضحى كلامه والعدم سواء، أي وجوده مثل عدمه. هاهنا، في سياق العلاقات الإنسانية المختلفة ومعطياتها العاطفية المتنامية الحارة، الحميمة، الصميمية… أو الساكنة، الباردة، النائية، الجافية… ومفرداتها الغنية بلا حدّ والمفتوحة دائماً وأبداً (الحب..)، في هذا السياق دخل جان بول سارتر دائرة الوهم حين جعل كل الناس سواسية فلا تفاوت، ولا تناقض، ولا اختلاف، ولا فرق بين (زيد وخالد وجان وجاك..) في أي شيء كبيراً كان أم صغيراً (..؟!).

ووقع سارتر في الخطأ حين قاس الناس جميعاً على قياس نفسه، فلا تمايز بين الناس على الإطلاق، والفروق بينهم معدومة لا وجود لها (؟!). وجافى سارتر – ضمن هذا السياق – الموضوعية عندما حكم على البشر أجمعين حكماً عاماً قاطعاً، واحداً ووحيداً بناء على تجربته الفردية الخاصة… فسارتر حين أخفق في الحب، وفي فهمه له، لم يخصص هذا الإخفاق، بل عمّمه وجعله يشمل البشرية قاطبة (؟) وذهب سارتر إلى أبعد وأخطر من ذلك بكثير حين زعم أنّ الحب نفسه محكوم عليه بالإخفاق ومصيره الموت بالضرورة، فالحب في التحليل الأخير، (وجود) لابدّ من أنْ ينتهي إلى الهلاك والاضمحلال والعدم، الذي هو الوجه الضدي للوجود (؟!!)

 إنّ مقولات سارتر في الحب ومفرداته ومصيره.. تنطلق من مقولة مركزية حاسمة لديه اسمها (الشخص الثالث)، فسارتر يقرر بشكل مطلق الوجود السلبي للشخص الثالث في أي علاقة إنسانية، بين أي شخصين محبين.. بين أي عاشقين.. بين أي طرفين حميميين… ولذلك ينشد العشاق الوحدة والانفراد والخلوة.. ولكن لا مفرّ، ولا خلاص فوجود الشخص الثالث السلبي ليس وجوداً مادياً فحسب، بل ــ وهنا يكمن البلاء الأعظم ــ هو موجود على الصعيد المعنوي الجواني للإنسان، في عقله وقلبه ووجدانه وسلوكه وثقافته.. وحتى في لغته. هكذا.. يخرّب الشخص الثالث الحب ويدمره، ومن ثم يحكم عليه بالعدم والموت الحتمي.. (قرين الشخص الثالث في العربية، على نحو من الأنحاء، هو العذول..)، وجان بول سارتر، هاهنا، خرج على جميع المناهج (ولاسيما المنهج الجدلي الديالكتيكي) وعنها، أي أنّ سارتر تجاوزها مجاوزة غير منهجية، وغير علمية، فكانت قفزته قفزة في الفراغ…

 نعم، صحيح القول بأنّ الإنسان الذي لا يحب.. لا ينظر إلا إلى ذاته، ولا يستطيع النفاذ إلى جوهره، أو باطنه العميق.. وصحيح القول، كذلك، بأنّ الإنسان الذي لا يحب ينظر إلى الآخر، أي آخر، على أنه مجرد (شيء) أو (سلعة) أو (موضوع) فحسب.. ولا شبهة بأنّ الإنسان غير المحب يعجز عجزاً تاماً عن العبور إلى جوهر ذاته ووجوده وإدراك هويته الحقيقية، ومن ثم يعجز بشكل مطلق عن العبور إلى ذات (الآخر) وجوهر وجوده وكنه هويته…

 ولكن على الضفة الأخرى هناك الإنسان المحب الذي يقع على طرفي نقيض مما تقدم.. فالإنسان الذي يحب لا ينظر إلى الآخر على أنه مجرد (شيء)، أو سلعة، أو موضوع، وعلاقته بهذا الآخر هي علاقة حميمة وجودية عميقة، جوهرية واعية و(استكشافية) مقطوعة الصلة بأي نزعة (سطحية) تسطيحية و(تشييئية)… والإنسان الذي يحب يستطيع الوصول إلى ذاته وجوهر وجوده.. وإلى ذات (الآخر) وجوهر وجوده.. كما يستطيع إدراك (موضوعه) جوهراً ومظهراً، داخلاً وخارجاً، إدراكاً إنسانياً حقيقياً… لأن الإنسان المحب حسب الماركسية (يؤمن) عبر الحب ومعه وبه بكل (الموضوعات) التي تقع خارجه (…).

 إنّ جان بول سارتر لم يُقِمْ أي وزن للفوارق والفروق البشرية (الطبيعية، الأخلاقية، الفكرية، الثقافية، القيمية، المعيارية، الاجتماعية والطبقية عموماً…)، ولم يلحظ أنّ الإنسان معطى متحرّكاً متحوّلاً قابلاً للتغير والتغيير.. و أنّ الإنسان لا يسير وفق آليات ميكانيكية محضة، وأنظمة رياضية صرفة، ومقولات جامدة ثابتة، وإرادات خارجية، وقوانين أرضية وسماوية لا يحيد عنها قيد شعرة… كما لم يلحظ سارتر الجوانب الإيجابية المشرقة للإنسان إلى جانب نواحيه السلبية المظلمة، ومن ثم لم يلحظ سارتر الاختلافات الشخصية في كل الأزمنة والأمكنة، روحاً، نفساً، وجداناً، قدرة، حيوية، نضجاً، إرادة، حرية، ذاتاً، موضوعاً، جوهراً ومظهراً، خيراً وشراً، امتثالاً ورفضاً، استعباداً وتحرراً، خضوعاً وتمرداً، إيثاراً واستئثاراً، غيرية وأنانية، اعتماداً على النفس واتكالاً على الغير.. لقد جرد سارتر البشر من كل ما تقدم وصادره مصادرة قسرية جبرية (؟!!).

 وإلى ذلك جميعاً لم يأخذ جان بول سارتر في حسبانه التناقضات الإنسانية الأزلية، فالتناقض داخل الكيان الواحد كان ـ ومازال ـ يفعل فعله في الإنسان عبر مسيرته التاريخية…

العدد 1105 - 01/5/2024