في ذكرى تأسيسه التسعين: الحزب الشيوعي السوري تاريخياً… علاقاته السياسية

لا تستطيع مقالة أن تغطي مساحة العمل السياسي الوطني للحزب الشيوعي السوري خلال تسعين عاماً، لكن نحاول أن نسلط الضوء على بعض المفاصل الأساسية في نضال الحزب، وما رافقه من صعوبات جمة.

من التأسيس إلى الاستقلال

ارتبط تأسيس الحزب وظهوره في عام 1924 بنمو حركة التحرر الوطني في سورية، وبظهور الاتجاهات الأساسية في حركة التطور الاجتماعي السياسي، وبتأثير وإشعاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917.

جاء التأسيس استجابة لحاجات التطور الموضوعي والنضال الوطني التحرري والاجتماعي للشعب السوري، لهذا سعى الحزب للعمل المشترك والتحالف مع أي قوة ضد العدو المشترك، وهو الاحتلال الفرنسي، فساهم بفعالية عام 1936 بخطة الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار.. فقد كان لقرارات الأممية الشيوعية أهمية كبرى، فانتهج الحزب سياسة الجبهة المعادية للفاشية، وسياسة الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار، وقد جرى التعاون مع البرجوازية الوطنية الممثلة في ذلك الوقت بالكتلة الوطنية. دخل الحزب المعركة الوطنية من بابها الواسع بدعوته إلى اتحاد القوى المعادية للاستعمار الفرنسي.. ولم يغفل معركة الدفاع عن عروبة لواء إسكندرون عام 1937 فقد تألفت لجنة عامة لتنظيم الدفاع الشعبي عن إسكندرون على مستوى البلاد، من القوى التالية: الحزب الشيوعي السوري، الشباب الوطني، عصبة العمل القومي، النادي العربي. ولعب الرفيق خالد بكداش الأمين العام للحزب آنذاك دوراً هاماً في تلك اللجنة، إذ برز دور الحزب متميزاً في حق سورية المشروع، وفي اللواء السليب.. حقيقة، سيبقى دور الحزب في هذه القضية الوطنية صفحة مشرقة في التاريخ الوطني للشيوعيين.. تابع الحزب نضاله الوطني عبر سياسته التي تهدف إلى جمع أكبر وأوسع قوى تحت شعار الجلاء التام للاستعمار دون قيد أو شرط، ووسع تعاونه مع البرجوازية الوطنية غير المترددة والرافضة للشروط الاستعمارية مقابل الجلاء، فشارك في فصائل الدرك التي كانت إحدى مؤسسات الدولة، وسقط الرفيق طيب شربك شهيداً في معركة الدفاع عن البرلمان، وانتزع الشعب السوري استقلاله الوطني عام 1946 حصيلة نضال وطني شاركت فيه كل مكونات الشعب السوري..

من أخطاء الحزب في هذه المرحلة دعوته لإقامة حكومة عمال وفلاحين في بداية الثلاثينيات، ورغم ما يقال عن تطرف هذا الشعار، إلا أنه يكشف الوجه الطبقي الواضح للحزب.

من 1946 إلى 1970

أصدر الحزب البيانات المنددة بالديكتاتوريات العسكرية بعد الاستقلال، وتعرض أعضاؤه للملاحقة والاعتقال، لكنه تابع نضاله السياسي عبر تطبيق منهجية خطة الجبهة الوطنية، لكن بالمقابل لم يتخلّ عن نضاله المستقل في سبيل مطالب الفئات الكادحة.

بعد دخول الحزب البرلمان عام 1954 ممثلاً بالرفيق خالد بكداش الذي نجح بأصوات عالية، أخذت الجبهة الوطنية أشكالاً أكثر تنظيماً (الحزب الشيوعي، حزب البعث، شخصيات برجوازية وطنية)، وسعى الحزب لترسيخ هذه الجبهة من القواعد، لكن الآخرين رفضوا هذا الاقتراح، واقتصر التعاون على البنى القيادية، لكن الحزب تابع نضاله المطلبي والعمالي في قواعده وصحافته العلنية في ذلك الوقت.. والأنكى من ذلك أن بعض قيادات تلك القوى أوصت بعدم الاختلاط مع الشيوعيين. نذكر هذه الوقائع لنبين حجم الألم والظلم الاجتماعي والمعنوي الذي تعرض له الشيوعيون، خاصة في المناطق المحافظة في ذلك الوقت.

في عام 1956 كان العدوان الثلاثي على مصر، فتألفت في سورية لجنة عليا للتجمع الوطني من ممثلي الأحزاب والهيئات المختلفة، ومن ممثلي الجيش العربي السوري، وكان ذلك تطبيقاً خلاقاً للإخاء بين الجيش والشعب.

حاولت القوى الرجعية وبعض القوى اليمينية الإيقاع بين أطراف اللجنة باختراع مؤامرة، للاستفراد بالسلطة، يقودها الشيوعيون.

من فترة الخمسينيات نستخلص الدور الوطني للبرجوازية الوطنية في التعاون مع القوى الوطنية والتقدمية، وأهمية هذا التعاون الذي يصب في مصلحة الوطن. كما نستخلص أهمية انتخابات عام 1954 في ظل البرجوازية الوطنية، فقد كانت انتخابات ديمقراطية رائعة، نجح لـ(البعث) 17 نائباً، و3 قوميين، وشيوعي واحد.. وفي عام 1958 اتحدت سورية ومصر، ونحنا هنا لسنا بصدد نكء الجراح، لكن ما حدث في فترة الوحدة وبعد سقوطها ترك آثاراً مدمرة على مجمل العمل السياسي الوطني والقومي، لا تزال تبعاته حتى هذه اللحظة.

بعد انهيار الوحدة وفي أواسط الستينيات، تحت ضغط حاجات التطور الاقتصادي والاجتماعي والتأميمات الكبرى، تحول الحزب من شعار الجبهة الوطنية إلى شعار الجبهة الوطنية التقدمية.. وقد بدأ تعاون أولي وابتدائي بين الحزب الشيوعي وحزب البعث داخل الحكم وخارجه منذ عام ،1966 فكان سميح عطية أول وزير شيوعي في حكومة عام 1966.

طبعاً خرج الحزب عام 1961 مثخناً بالجراح.. الآلاف من أعضائه تعرضوا في فترة الوحدة للاعتقال، وسقط له شهداء على رأسهم فرج الله الحلو وسعيد الدروبي وآخرون غيرهم، وقد دفع الحزب ثمناً غالياً نتيجة موقفه المبدئي من الوحدة.

التعاون في إطار الجبهة الوطنية التقدمية

دخل الحزب في نقاش فكري حاد على أعتاب المؤتمر الثالث 1969 أخذ من الوقت والتعب ما أخذ، لكنه خطا خطوة متقدمة في العمل السياسي الوطني المنتظم.. فقد أقر المؤتمر الثالث للحزب مقدمات وشروط التعاون التالية:

1- التعاون مع جميع القوى الوطنية والتقدمية داخل الحكم وخارجه.

2- إبراز وجه الحزب المستقل في القضايا المبدئية والمسائل السياسية الكبرى.

3- الدفاع عن مطالب الجماهير الشعبية الكادحة ومصالحها.

هنا نذكّر بأن الحزب رسخ الأساس الرئيسي التالي: التعاون على أساس العداء للإمبريالية والرجعية وحماية مصالح الوطن والمواطن.

انتقد الحزب الظاهرات السلبية التي برزت عند إقرار ميثاق الجبهة (1972) وتحفظ على بعض البنود، لكنه وقّع ميثاقها معتبراً أن توفير أجواء الثقة والتفاهم من خلال الممارسة العملية ستؤدي إلى نتائج إيجابية أعمق وأوسع، وسترخي بظلالها على مجمل العمل السياسي لأحزاب الجبهة ولمستقبل سورية بالعموم.. معتبراً الميثاق ككل ميثاقاً وطنياً يمكن البناء عليه في توسيع المشتركات وترك القضايا الخلافية للمستقبل.. وهنا نستطيع القوى إن الجبهة لعبت دوراً سياسياً هاماً خلال حرب تشرين عام 1973 قدم الحزب فيها أكثر من ثمانين شهيداً في هذه المعركة الوطنية.

ميزات العلاقة السياسية الجبهوية للحزب

باعتقادي إن العلاقة مع القوى الأخرى في إطار الجبهة، خاصة مع حزب البعث الحاكم، تميزت عموماً بالتوافق غالباً، خاصة في القضايا السياسية الكبرى، والتأرجح أحياناً خاصة في القضايا الاقتصادية.. فالحزب انتقد دائماً بقوة، أسلوب التعامل مع القضايا الداخلية التي تمس حياة الشعب السوري، ولم يكتف بالنقد، بل قدم المبادرات والحلول، ولم يهمل موضوع الجبهة، بل قدم طروحات ورؤى وأوراق عمل لتحسين عمل الجبهة. من الواضح أن الحزب وضع وبشكل دائم مصلحة الشعب في المقدمة، فلم يراهن على ظهور إعلامي أو تسجيل موقف، لكنه أظهر موقفه الحازم في التصدي لسارقي قوت الشعب، وفي تعزيز دور الدولة الاجتماعي في حياة الناس وفي إقرار القوانين العصرية وتوسيع الحريات الديمقراطية للقوى الوطنية المخلصة، والإفراج عن معتقلي الرأي.

صحيح أن الحزب لم يستطع أن يوفق بين شروطه الثلاثة دائماً، بسبب انعكاس الوقائع الحياتية اليومية وتقلبات الظروف السياسي، لكن ذلك لم يثنه عن تقييم مراحل التطور التي مرت على البلاد، واتخاذ ما يراه مناسباً من مواقف.. فلم يسع الحزب إلى التناحر في العمل السياسي الوطني العام، ولا إلى اصطفافات لحظية، بل تابع مساره النضالي الوطني السلمي، معتبراً منابع القوة لدى سورية تكمن في معاداة الإمبريالية والاستعمار، والتصدي لأعداء الوطن في الداخل والخارج، والعمل لتوحيد المسار السياسي الوطني للقوى الوطنية والتقدمية، وتعزيز أجواء الثقة بين أطرافها.. وانتقد ظاهرة الاحتكار السلبي، ودعا سابقاً ومايزال يدعو حالياً لتوسيع العمل المشترك الوطني لما فيه خير ومصلحة الوطن والشعب السوري.

العمل السياسي للحزب أثناء الأزمة الحالية

بسبب الظروف الأمنية الطارئة، تقلصت الأعمال الجماهيرية للحزب، رغم ذلك أجرى الحزب لقاءات ووقفات جماهيرية، واحتفل بعيد العمال والشهداء، وهناك العديد من اللقاءات السياسية مع مختلف القوى داخل الوطن وخارجه، ومنها الأحزاب السياسية الناشئة، لكن الظروف الحالية أعاقت وتعيق العمل السياسي، رغم كل ذلك يجهز الحزب نفسه للعديد من الفعاليات بمناسبة الذكرى التسعين للتأسيس.

إن ما ذكرته هو مرور سريع، ولا أدّعي أنني أغنيت الموضوع وأعطيته حقه، فذلك يحتاج إلى الكثير من الجهد والتعب والمراجع والباحثين المختصين.. إنها قراءة أولية بسيطة لتاريخ حزب عريق.

المصادر

 (نضال الشعب)، العدد 170 عام 1974. والعدد 178 عام 1975.

العدد 1104 - 24/4/2024