إلى محمد الفيتوري… «سيزيف» إفريقيا في الرحلة الأخيرة

ألم تقل يوماً: (تصحو المرايا فيك والصور.. لم يجف العشب والشجر.. الروح مثقلة بالشوق والحلم في الأجفان ينتظر)  إذاً، أنت تعبر إلى الذاكرة وأنت المتطير إلى موت لم يبدل مهنته القديمة، قلت لي ذات يوم : الأحلام تعبرنا، وقلت وقلت، ولم أستطع يومذاك حبس عبراتي لأن أصابع شعرك ظلت في يدي. وقلت لك بوصفك أيقونة عربية إفريقية: هل مازال الشعر بخير؟ قلت: الشعر بخير، أما نحن.. ففسرها كما شئت.

أعود إلى قصيدتك

يا أخي في الشرق في كل سكن

 يا أخي في الأرض في كل وطن

 أنا أدعوك.. فهل تعرفني؟

يا أخا أعرفه.. رغم المحن

 إنني مزقت أكفان الدجى

 إنني هدّمت جدران الوهن

أتقرى تلك العوامل التي جعلتك صاحب تلك المواقف وهي من بلغت لديك أشدها في الحضور القوي، أي في توتر العبارة وبلاغة الرؤيا لا سيما ما يقع قارئك عليه حينما يقرأ ديوانك الأخير (عرياناً يرقص في الشمس) وفيه رسمت صورة لطفل إفريقي ترقّصه أمه أمام الحراب والأقنعة والوجوه، ألم يكن هذا الطقس الفيتوري بامتياز هو خاصية خطابك الشعري الذي يحيلنا إلى إيقاع آخر هو إيقاع المقهورين والمعذبين في الأرض، وأنت من تدلف إلى الشمس لتقطرها في قصائدك بما يشبه السحر الحلال، وبما يشبه أرق ماسّك الذي تجوهره قصائدك الصاخبة بما يكفي والناحلة القلب مثل قلبك الذي اختلطت هوياته بادئ الأمر، لكنه استوى على هوية الشعر خلاصة كل التجارب التي عصفت في حياتك، ومن الشعر تواترت علامات جُلها فيما انصرف إليه خطابك، أي كما قيل (تسكنها تلك الروح الطوطمية البدائية) وأنا أرى أكثر من ذلك أنك عجنت تراب الأساطير بماء النبوءات ليأتي الشعر صافياً في حضرة الرؤيا كأسطورة تحضر في الشعر ليبقى هو ظلك المضيء رغم هجرات الجسد ونكران الجغرافيا، رغم ألف حلم ونزيف وماض تولده معجزة الكلام السامي، أليس الشعر دليلك لأن تسكن في الأشياء بل تتعرفها كما هي بذاتها من تتعرف عليك؟!

فتلك الروح الإفريقية اللامعة من تدخل في جدل الشعر والكلمات (هي ذي الشمس راهبة الجزر القرمزية/ تدفن في غابة الليل أزهارها/ وتقيم قداديسها/ وتعمد جدران قبلتها بالدماء).

في سجال المواقف كان الفيتوري شاهد روح أمة كما في لغته التي تحاكي الحياة، بل إنها من تذهب كمعادل لها في توق حلم وشغف انعتاق ورغبة في أن يكون أبيض الشعر هو أبيض القلب، وفي مداراته كلها طافت إفريقيا برماحها بثقافتها وبلغتها وبأبجدية كينونتها لتصيّره سادن بوحها، فماذا أضاف الفيتوري إلى الشعر، وحسبه الشعر من يضيف إلى مدونات الإبداع؟ هكذا يعبر الفيتوري أزمنته كلها، لاسيما تلك التي لم يعشها وحلم بها واقعاً وتوسلها خطاباً شعرياً كصخرة سيزيف، مازال يدفع بالكلام الجميل النازف من الحبر دماً، إنه الفيتوري في وجوهه الأخرى في رحلاته وارتحالاته من ذاته إلى العالم وهو يوازيه كعالم آخر ليشتق منه مرئياته الأخرى، صوره، ملاحظات إنشاده القصوى، من تقرّى ناره في عتمة الليل العربي فسعى لأن يكون صنو حضارة الكلام، وأفعال الشعر لدى الباقين أجيالاً هي من تحفر في الأبدية كل جداولها، ليصيّر الشاعر كل بهاء قلبه أغاني طليقة تليق بالراحلين خفافاً في زحمة الزمن العربي إلى الذاكرة مصادفة واختياراً، علنا نتعرف على مهل أكوانه الشعرية وجدليات هويته الشعرية، التي لم ترتهن يوماً سوى لأغانيها وحضورها رغم ضراوة الغياب.

في الشعر ومراياه في نهايات القرن كما تنبأ يوماً أوكتافيو باز، يذهب الشاعر إلى أقداره الأخرى مبرّأً من تهمة الغياب ومن شبهته، ليعيد، بالموت القسري، تأويل قصائده الناهضة أبداً بثقافة الحياة.

وهو من أنشد يوماً (الملايين أفاقت من كراها

 ما تراها ملأ الأفق صداها

 خرجت تبحث عن تاريخها

 بعد أن تاهت عن الأرض وتاها

 أنا حر رغم قضبان الزمن فاستمع

 لي استمع لي إنما

 أذن الجيفة صماء الأذن

 إن نكن سرنا على الشوك سنينا

ولقينا من أذاه ما لقينا

 إن نكن بتنا ولقينا من أذاه ما لقينا) وهكذا يطاول النشيد لحظاتنا تلك لعل راهنية الشعر العربي، ليست في ماضوية كائنه الشعري، إن لم يكن قد جاء من المستقبل ليظل أثراً يحاكي خلوداً ممكناً، هكذا نفسر للشاعر ذاك الحضور.

أحمد علي هلال

العدد 1104 - 24/4/2024