فنانة رائدة ومبدعة ومناضلة ثورية.. أنجي أفلاطون.. ظاهرة في الفن العربي المعاصر

عاشت أنجي أفلاطون طفولتها، وفي فترة مبكرة من حياتها مارست أول شكل من أشكال التمرد، فقد رفضت الدراسة في مدرسة فرنسية لا يستطيع الدراسة فيها إلا أبناء الأغنياء والمتنفذين مدرسة (القلب المقدس).

وكانت اللغة الفرنسية هي لغة البيت والأقلية الأرستقراطية. وكانت خالتها زوجة الكاتب أحمد راسم الذي أصدر مجلة فرنسية شجع أنجي الموهوبة بالرسم، إذ نشر رسومها وهي ما زالت طفلة في العاشرة من عمرها. وظلت أنجي تعاني ضغوط العائلة حتى الثامنة عشر من عمرها. تتحدث وتكتب بالفرنسية ولا تعرف إلا القليل من العربية، ومارست في تلك المرحلة نسخ اللوحات العالمية وإعادة صياغة الصور الضوئية للشخصيات. وكان الواقع المصري المصدر الأساس في تجربتها في تلك المرحلة، فقدمت الإنسان في صيغ واقعية وتعبيرية تكشف الجانب المظلم والمأسوي، وساد لوحاتها في المعرض الأول جو مشحون والإنسان عنصر رئيسي في هذه الأعمال.

وكان الفنان المصري الطليعي البارز في سنوات الأربعينيات كامل التلمساني أول أستاذ لها، فهو رائد ومؤسس السريالية في الفن التشكيلي، ولم تكن دروس التلمساني في الرسم فقط كما تقول أنجي: (بل نافذة ساحرة على الحياة، وعلى مصر الحقيقة، نافذة على المعنى الحقيقي للفن والرسم ليس إلا تعبيراً صادقاً عن المجتمع والإنسان).

كما أحبت أعمال (فان غوغ) واعتبرته أستاذها الثاني.

وهي في السابعة عشرة من عمرها عام 1942 كانت أنجي فنانة سريالية، وهي مرحلة تصفها بأنها مرحلة الانكفاء على الذات. وعندما تصاعد المد الثوري في مصر عام 1944 اندمجت بعمق ونشاط في العمل السياسي.

وانتقلت نقلة فكرية ونفسية ضخمة. فعملت في لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية التي ساهمت في تأسيسها وتركت بصماتها على نشاط اللجنة فنياً ونضالياً وفكرياً. وكان لها دور رائد في محاربة التطبيع مع العدو الصهيوني بالتظاهر والكلمة والحركة واللوحة.. كما كان لها دور رائد في إعلاء القيم الثقافية النضالية، والاحتفاء بحركات المقاومة العربية ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية.

وهكذا دخلت البنت الأرستقراطية دائرة مثقفي اليسار، وراحت تقرأ بنهم وشغف عن الفقر والاستغلال الطبقي والاستغلال المزدوج للمرأة في المجتمعات الرأسمالية..

إضافة إلى قضايا التحرر الوطني والاجتماعي. من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

تقول باختصار شديد:

(وجدت نفسي أقتنع بعمق وصدق بالاشتراكية العلمية وبالعمل الوطني من أجل تحرير بلادي من وطأة المستعمر، وتحكم الإقطاع، والطبقة البورجوازية المتعاونة مع المستعمر).

وبدون تردد اختارت الانضمام لإحدى المنظمات الشيوعية القائمة آنذاك هي (الإيسكرا)، وتعني (الشرارة). الصحيفة الأولى للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. في السنة التي أنهت فيها دراستها عام 1944 وكان عمرها عشرين عاماً، وشرعت في الإسراع من وتيرة تعلمها اللغة العربية، الأداة الضرورية لعملها السياسي.

ومن (الإيسكرا) إلى (حديتو). إلى الحزب  الشيوعي المصري بعد عام 1952. كان طريق أنجي في العمل السري. توزع نشاطها العلني بين فنها الذي أخلصت له وحوّلته إلى أداة للتعبير عن آرائها. ومتابعة قضايا المرأة المصرية بوجه خاص، حاولت أنجي ورفيقاتها بعث الحياة والروح الجديدة في التنظيمات النسائية القديمة، ولكنهن لم ينجحن تماماً، وكنّ قد سعينَ منذ منتصف عام 1945 إلى الاشتراك في المؤتمرات العالمية، فشاركت أنجي في أول مؤتمر عالمي أقيم للمراة بعد الحرب العالمية الثانية. وهو مؤتمر الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، في باريس عام 1945.

 هذا الاتحاد ذاته سيعقد مؤتمره السابع عشر هذا العام في كوبا 2015 ورابطة  النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة عضو في هذا الاتحاد حتى اليوم مع المنظمات النسائية الديمقراطية العربية الأخرى.

وستحتفل هذا العام بالذكرى السبعين لتأسيسه. (1945 ـ 2015).

في مؤتمر باريس للاتحاد ألقت أنجي خطاباً رائعاً باسم المرأة المصرية، وحقيقة الأوضاع التي تعيشها، مؤيدة نضال نساء العالم من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. ومن أجل حقوق النساء خاصة.

وعندما عادت من المؤتمر في ذلك الزمن البعيد وضع اسمها على القائمة السوداء في مصر. وخصصت أجهزة الأمن ملفاً خاصاً لها في (القلم السياسي) كما كانت تسمى أجهزة أو فروع الأمن في تلك الفترة الحافلة بين انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو 1952.

كيف تحولت هذه الفتاة الارستقراطية المرهفة ذات الثقافة الفرنسية إلى مناضلة سياسية تحترف النضال اليومي؟

منذ عام 1945 وهي تناضل دون كلل وبانضباط شديد، تغلب انتماؤها السياسي على كل شيء. خاضت كل معارك النضال الوطني والديمقراطي منها الكفاح المسلح في القناة، وكانت لإنجي كشيوعية قدرة مدهشة على العطاء وتحمل المخاطرة، إضافة إلى قدرات تنظيمية فائقة في عملها الحزبي والجماهيري سواء في مرحلة الكفاح المسلح أو بعده.

تزوجت أنجي عام 1948 عن حب واختيار من محمد أبو العلاء، وكان بدوره منتمياً إلى تنظيمات اليسار. وقد حقق الزواج لها الكثير من الاستقرار، فالتحقت بالقسم الحر في كلية الفنون الجميلة.

لكن أصلها الارستقراطي لم يحمِها من السجون والمعتقلات والمطاردة والتشريد.

في بداية عام 1959 شنت السلطات المصرية حملة بوليسية شرسة أدت إلى إلقاء الآلاف من المناضلين في السجون والمعقتلات.

وكان قد صدر أول مرسوم جمهوري يقضي باعتقال المرأة لنشاطها السياسي، إذ تم القبض على عدد كبير من المناضلات وأودعن سجن القناطر الخيرية المجاور للقاهرة، ولم تكن أنجي بينهن، بل كانت تواصل نضالها سراً بعيداً عن عيون الأمن. وبعد فترة كما  تقول رفيقاتها السجينات:

(دخلت علينا فلاحة ريفية). كانوا قد قبضوا على إنجي وألقوها بيننا في المعتقل كما وجدوها، واستغرقنا جميعاً في الضحك عندما تأملنا الزي الريفي الذي ترتديه الابنة المدللة للأسرة الارستقراطية.

وفي السجن قضت خمس سنوات كاملة 1959 ـ ،1963 حيث يتدنى مستوى الحياة إلى ما تحت قدرات البشر على الاحتمال. كانت إنجي بمثابة القدوة لرفيقاتها ومنحتهن بسلوكها القدرة على المزيد من التحمل. وفي سنوات السجن كانت مثيرة وغنية.

أعمالها: بعد حضور مؤتمر باريس أصدرت كتيباً صغيراً بعد عودتها بعنوان: (80 مليون امرأة معنا) عام 1947 فيه تعريف للعالم بنضال المرأة أثناء الحروب، وأهمية وحدة نضال نساء العالم لنيل حقوقهن. قدم للكتاب. د. طه حسين.

والكتاب الثاني: (نحن النساء المصريات).. عام 1950.

بحث في أوضاع المرأة المصرية ـ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الأربعينيات، قدم للكتاب مؤرخ الحركة الوطنية عبد الرحمن الرافعي.

والكتاب الثالث والأخير: (السلام والجلاء) ارتباط قضايا السلم بقضايا التحرر الوطني. تقديم د. عزيز فهمي.

ومن الأفلام: سجلت د. ليلى أبو سيف مسيرة الفنانة والمناضلة أنجي في فيلم بعنوان (أين حريتي؟).

رسمت الأشجار والوجوه والأحزان في عيون (الساقطات) والأسوار العالية، وعشقت الألوان المبهجة، وحركة الأجساد في التقائها الطبيعة.. فجاءت لوحاتها أنشودة للحياة والعمل الجماعي، ولهذا لقيت بسيدة الألوان المتفائلة فالعمل السياسي كان رافداً مغذياً للوحاتها.

وإنجي الفنانة العظيمة التي جاوزت حدود المحلية إلى العالمية، والمناضلة التي آمنت بالاشتراكية العلمية منذ مطلع شبابها، وتحملت في سبيل نضالها كل مصاعب الهروب والسجن والاعتقال، جديرة بأن تكون نموذجاً لصلابة الإيمان بالمبادئ والعمل في سبيل تحقيقها مهما لقي صاحبها من عقبات..

 

انجي افلاطون

ولدت في القاهرة 1924 في وسط عائلي أرستقراطي. فقد كان والدها حسن بك أفلاطون أستاذاً في كلية العلوم، جامعة القاهرة ثم عميداً لها.. وكانت والدتها صالحة أفلاطون مصممة أزياء وصاحبة أول دار لتصميم الأزياء في مصر. ولدت ضمن هذا الوسط العائلي المترف وفي مرحلة اتسمت بكثرة الفقراء المسحوقين.

ـ عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي المصري 1957.

ـ عضو مجلس السلم العالمي.

ـ شاركت في تأسيس حزب التجمع الوطني التقدمي بأواسط السبعينيات.

ـ عضو الاتحاد النسائي التقدمي.

ـ عضو لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية.

منحتها فرنسا وبعض الدول الأوربية الأخرى، أرفع الأوسمة تقديراً لفنها الرفيع.

من أهم لوحاتها: (عنبر الساقطات)..، (الشجرة)، (أنوار)، والكثير غيرها.

العدد 1102 - 03/4/2024