صوت الجمال.. وجمال الصوت.. نور الهدى: الفنانة ليست علبة كبريت نطلبها متى نشاء

 

لا أظن غناء الجمال وجمال الغناء قد اجتمعا لابنة حواء، كما اجتمعا لسيدة التفريد والتغريد، صاحبة الظل الخفيف والعنق الوريف (نور الهدى)، لا سيما في رائعتها (جارة الوادي).

صاحبة البحّة الحنون

لئن اعتبرت مصر، في أربعينيات القرن الماضي، كعبة الفن العربي، وقِبلة الفنانين العرب. فقد كانت الأرثوذكسية نور الهدى، أولى الحاجّات، التي قَبَّلَتْ قدماها قاهرة المعزّ، لتأتي بعدها نجاح سلام.. سعاد محمد.. صباح.. وسواهن.

وُلِدَتْ (ألكسندرا بدران) التي عُرِفَتْ باسم (نور الهدى) في (مرسين) التركية في 24 كانون الأول 1924م، ثم انتقلت مع أسرتها إلى سورية فلبنان، حيث بدأت الغناء. وكونها ابنة لأسرة مسيحية، فقد تأثرت طفولتها بالأنغام والموسيقا التي تعبق بها التراتيل الكنسية، أثناء تأدية الطقوس في الآحاد والأعياد وسوى ذلك من المناسبات.

لقد شكلت نور الهدى (صاحبة الصوت الذي زاوج بين المساحة الواسعة والبحة الحنون) مع كلِّ من أسمهان وليلى مراد، الثلاثي الأكثر شهرة بين فنانات زمانهن، سواء لجهة فرادة الصوت في الغناء، أو لجهة البطولة في الأفلام، التي مثلنها.

غيرة وتشهير

باشرت (نور الهدى) عملها في السينما في فيلم (جوهرة) عام 1943م، مع يوسف وهبي الذي قدمها للشاشة الكبيرة وأعطاها اسم (نور الهدى). وتتالت أفلامها بعد ذلك: (ما تقلش لحد) مع فريد الأطرش.. (لست ملاكاً) مع عبد الوهاب و… وكان آخر فيلم لها في لبنان بعد عودتها من مصر، تحت عنوان (لمن تشرق الشمس) عام 1958م، من إخراج السوري يوسف فهدة.

الشائع هو أن (نور الهدى) تركت مصر، التي قضت فيها عشر سنوات (هي المرحلة الأبرز في حياتها الفنية) بسبب تراكم الضرائب عليها وملاحقتها مالياً. إلا أن السبب الرئيس لمغادرتها القاهرة، ما أعلنته (نور) نفسها خلال أحد اللقاءات التلفزيونية معها عام 1991م هو:

غيرة بعض الفنانات المصريات، من المرأة الآتية من بيروت، لتسرق منهن بريق الشهرة، حيث قامت (رجاء عبدو) مدفوعة من أم كلثوم، بالتشهير (بنور) وشكايتها إلى إدارة الشؤون العامة، التي لجأت إلى مضايقتها بشتى الطرق.

مواقف ورسائل

من مواقف (نور الهدى) الجريئة التي عرفت عنها وسجلت لها، موقفان ورسالتان:

أولاهما: الرسالة التي وجهتها للرئيس جمال عبد الناصر، إثر محاربتها فنياً من قبل زميلاتها المصريات. وقد نشرت الرسالة في مجلة (الشبكة).

تقول الرسالة: (الإجراءات التي فرضتها قوانين الرقابة المصرية الصارمة علينا، نحن أهل الفن في لبنان وسورية، باتت تتنافى وروح الثورة التي من أسسها تقوية العلاقات الأخوية الطبيعية بين مصر وكل قطر عربي. لماذا يا سيدي الرئيس يفرض علي أن أتوجه بكتاب إلى وزارة الداخلية في القاهرة لتوافق على منحي سمة الدخول إلى مصر، ولا يفرض لبنان بالمقابل سوى طلب بسيط تتقدم به الفنانة المصرية إلى سفارتها في القاهرة لا لوزارة داخلية لبنان!).

وثانيهما، رسالة موجهة لفخامة الرئيس اللبناني (بشارة الخوري) تعتذر فيها عن الحضور لإحياء حفلة تكريمية له في القصر الرئاسي، وذلك بسبب تبليغها الدعوة قبل يوم واحد من موعد الحفلة. تقول الرسالة: الفنانة ليست علبة كبريت نحصل عليها ساعة نشاء!

اهتمام أقل بصوت أحلى

 

يقول الناقد صميم الشريف في الصفحة 216 من كتابه (الأغنية العربية)، الصادر عن وزارة الثقافة في سورية: (وصوت (نور الهدى)، من الأصوات القوية (سبرانوا) يمتاز  ببحة خاصة، تجعل الأذن تميل إليه، وتفضله على غيره من الأصوات… ( غنت نور الهدى الأغنية الخفيفة فأجادت، وغنت في قوالب التراث فأبدعت، وتنطَّعَتْ للقصائد فحلَّقت، فهي بحق من أكبر وأقوى المطربات صوتاً..).

غنّت الفنانة القديرة نور الهدى، قبل اعتزالها الفن في ستينيات القرن الماضي، لكبار الملحنين.

للقصبجي: (يا اللي تحب الفلّ).

للسنباطي: (يا أتوموبيل) و(مولاي حبك قد سما بي).

لعبد الوهاب: (يا جارة الوادي) و(متقلي مالك محتار).

لفريد الأطرش: (متقلش لحد)، (مالكش حق) و(يا ساعة الوقت إجري).

لفريد غصن: (يانا يا وعدي).

لمحمد الكحلاوي: (يا رب سبح بحمدك كل شيء حي).

ولتوفيق الباشا: (حديث قبلة).ورائعتها الأخيرة (نم) كلمات الأخطل الصغير، وألحان رياض السنباطي التي غنتها في دمشق بعد غياب استمر أكثر من عقدين.

غير أن اهتمام الملحنين الكبار ب(نور الهدى) – كما يقول الناقد الياس سحاب في كتابه (دفاعاً عن الأغنية العربية) ص 127 كان دائماً أقل بكثير من مستوى حنجرتها.

استثناء أيضاً، أن تقصد الملحن حليم الرومي أثناء إقامتها في بيروت، بعد عودتها من مصر، ومعها قصيدة لصالح جودت، فتجد (الرومي) طريح الفراش..

واستثناء أن تعاصر (الكساندرا) الرحابنة وتعيش معهم، فوق بساط لبنان الأخضر، وتحت ظلال أرزه الأعطر، ولا يخصونها بلحن.

ولعله يكون استثناء أيضاً (إن لم تخنّي الذاكرة وتخاتلني المعلومة)  أن لا يصدر عن أية جهة حكومية كانت أم أهلية أم سياسية أم اجتماعية، فضلاً عن الجهات الفنية والثقافية. ما ينمّ عن تقديرها هذه الفنانة النادرة، لا في حياتها ولا بعد رحيلها؟

ولعله يندرج في عداد الاستثناء المرشّح للقاعدة، أن تبادر صحيفة (النور) اليوم في لفتة فنية منها، لتحيّي (نور الهدى)، روحاً وصوتاً وقامة فنية قلما يجود بمثلها الزمن، لا سيما أن التاسع من تموز الجاري يصادف الذكرى السابعة عشرة لرحيلها، عن دنيا جحودنا!

 

العدد 1105 - 01/5/2024