ملك الحاج عبيد… أديبة الغربة

الآنسة ملك الحاج عبيد أديبة ومربية وقاصة وروائية وكاتبة للأطفال.. ولدت عام 1946 في جبلة لأسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وكان ترتيبها السابع بين ثلاثة صبيان وخمس بنات.

كانت أمها من النساء القليلات اللواتي يمتلكن جمالاً لافتاً، وشخصية قوية، وثقافة واسعة، وقد أورثتها هذه الميزات اعتداداً قوياً بنفسها، وحسرة على أنها تزوجت في سن الرابعة عشرة من عمرها، وشغلتها هموم الأسرة الكبيرة عن متابعة دراستها وتنمية مواهبها الفنية في الرسم والتطريز والعزف على العود والمطالعة.. أما أبوها فكان رجلاً هادئ الطباع، رفيع التهذيب، وقد اشترك الوالدان في تربية أسرتهما على الأخلاق القويمة والمبادئ السامية.

تلقت ملك دراستها الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدينة جبلة الساحلية، وتأثرت بأمها القارئة الممتازة التي كانت تحفظ أشعار عنترة العبسي والمتنبي، وتعرف أبطال الجاهلية والإسلام، ووقائع فتوح الشام، وبجدتها التي كانت تحفظ قصص التراث الشعبي، وقد ظهر أثر هذا المحيط الواعي في أن ملك حفظت  وهي في التاسعة  ديوان (رمال عطشى) للشاعر سليمان العيسى، ورواية (كوخ العم توم) لهارييت بيتشر شتاو، وأسرتها القراءة التي انجرفت في تيارها، إلى أن ضبطتها أختها الكبرى وهي تقرأ رواية (لا أنام) لإحسان عبد القدوس، فوبختها توبيخاً شديداً، حتى ظنت أن قراءة الروايات أمر معيب، فكانت تختبئ في النافذة وترخي عليها الستارة، وتغرق في القراءة، وحين اكتشف مكانها وهي تقرأ رواية (البؤساء) لفيكتور هيجو، أفهمتها أختها هذه المرة أن هناك كتباً للصغار وأخرى للكبار، لكن هذالم يخفف من اندفاعها لقراءة كل ما تقع عيناها عليه، فقرأت مجلة (سمير) وقصص الأطفال بنفس المتعة التي قرأت بها الروايات العالمية، كما قرأت قصة (تجاربي مع الحقيقة) لغاندي، و(رباعيات عمر الخيام) وديوان (اللزوميات) لأبي العلاء المعري  الذي جعلها تكره أكل اللحم فترة تمشياً مع نظريته  وروايات نجيب محفوظ، وتولستوي ودوستويفسكي وغيرهم من أعلام الأدب العربي والعالمي، وكانت تستعير الكتب وتستأجرها لتقضي الليل ساهرة معها، كي تستأجر غيرها في صباح اليوم التالي.

بعد أن نالت شهادة الدراسة الثانوية انتسبت إلى كلية الآداب في جامعة دمشق، وحصلت في الوقت نفسه على وظيفة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ولما تخرجت عام 1970 عادت إلى جبلة حيث عملت في التدريس الذي اعتبرته رسالة مقدسة، وانخرطت في أنشطة ثقافية واجتماعية، وبدأت بتكوين مكتبتها الخاصة، ونشأت بينها وبين البحر صداقة عميقة، فلا يمضي يوم دون أن تزوره، لكنها بعد مرور عدة سنوات شعرت بالملل القاتل، ولم يستطع البحر ولا القراءة ولا الكتابة ولا زيارة الصديقات أن تمتص ما تحسه من سأم، ولما ألحت عليها فكرة الاغتراب، سافرت عام 1982 إلى الكويت لتعمل في التدريس خمسة عشر عاماً.

كانت سنواتها الأولى في الكويت ممتعة رغم متاعبها، حيث حققت شيئاً من الاستقلالية التي كانت تنشدها وتبحث عنها، وتخفف من الالتزامات العائلية، ووجدت وقتاً أوسع للكتابة، فصدر لها وهي في الكويت روايتها الأولى (الخروج من دائرة الانتظار) عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وثلاث مجموعات قصصية هي: (قال البحر) و(الغرباء) و(حكايات الليل والنهار)، ولما حدث الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 عادت إلى جبلة، حيث أمضت سنة كاملة مع الأهل. ثم رجعت إلى الكويت لتمضي ست سنوات متواصلة، إلى أن غادرت أخيراً إلى مسقط رأسها، لتستقر فيه مع ثلاث من بنات أخيها اليتيمات، وتغرق من جديد في مهام البيت التي كرهتها طوال حياتها، وكانت تسعى جاهدة للخلاص منها، ومع ذلك أصدرت ثلاث مجموعات قصصية أخرى هي: (غربة ونساء) و(البستان) و(العاصفة) إضافة إلى مجموعتين قصصيتين للأطفال استندت فيهما إلى التراث الشعبي وهما: سلسلة (حكت لي جدتي) وسلسلة (قمر الزمان).. وهي تعكف الآن على كتابة رواية بدأت بها قبل ثلاث سنوات ولم تكملها بسبب عدم تفرغها لها.

تعترف ملك بأنها  رغم تقديسها للحرية والاستغلال  قد مر في حياتها أناس رائعون حملت لهم كل المودة والاحترام والتقدير، لكن الظروف لم تكن مناسبة للارتباط بأي واحد منهم، إلا أن عدم زواجها لم يعقدها، ولم يشعرها بالنقص، بل على العكس منحها مزيداً من التفرغ للقراءة والكتابة والإنتاج الأدبي، فليس بالقليل إبداع رواية وست مجموعات قصصية وسلسلتين للأطفال حتى الآن.

سأتوقف عند مجموعتها القصصية الثانية (الغرباء) التي صدرت عام 1982 عن دار الحوار في اللاذقية، وضمت ثماني قصص هي: حبيبتي لمى، في ضوء القمر، البيت، ياسمينا تسترجع أو تتخيل، في المرسم، الضباب، السلحفاة، مفارقة التي يشكل الاغتراب العمود الفقري فيها، فقد أشرنا إلى أن الآنسة ملك أمضت شطراً كبيراً من حياتها في الكويت، حيث عاينت مشاكل هذا البلد الاجتماعية، وفي طليعتها مشكلة الخادمات  الأجنبيات اللواتي لا يخلو منهن بيت من بيوتات الكويت الموسرة، وما يتعرضن  له من مضايقات، وما يرتكبنه من جرائم وموبقات!

يتحدث الأستاذ خالد عثمان عن مآسي الغربة في مجموعة (الغرباء) فيقول: (إن ملك الحاج  عبيد واحدة  ممن اكتوين بنار الغربة، لذلك تبرز في كل ما كتبت وتكتب معاناة الإنسان الذي يترك بلده، ونستطيع القول إن من أهم الفضاءات التي تترك فيها أغلب كتاباتها هي الغربة).

ويؤكد الكاتب عثمان أن (أغلب قصصها يتمازج فيها الموضوع الاجتماعي مع المعاني الإنسانية للأفكار، وطريقة المعالجة عبر خطين متوازيين، يعينها في ذلك طبع الكاتبة التي فُطرت على حب الخير، ورهافة المشاعر، وصدق المقاصد).

يحزنها أن ترى الطفولة يساء إليها من خلال قصة (حبيبتي لمى) فالطفلة (لمى) متفوقة في الموسيقا، ولكن بدلاً من أن تنجح وهي المتفوقة يحدث التلاعب بالنتائج، ويفوز فيها ابن (المعلم)، وليس هذا (المعلم) إلا المسؤول الكبير في الدولة، وهو  غير المعلم الذي يدرّس الطلاب في المدرسة.

وتوضح الكاتبة كلامها أكثر  حين تقول: (المعلم شيء كبير عنده عسكري وسيارة، ويستطيع أن ينجح ابنه بالمسابقة رغم عزفه الرديء).

وتتحدث في قصة (البيت) عن غربة الفلسطينيين وقضيتهم وتهجيرهم عن وطنهم، من خلال بطلي القصة (خالد) الشاب الفلسطيني الطالع من وادي العذاب، و(ليلى) الطالبة في السنة الأخيرة من كلية الطب، ومعاناتهما المريرة في البحث عن بيت ولو في ضواحي دمشق.. وبعد أن يئسا من العثور عليه، قررا أن يسكنا بيتهما غير الجاهز للسكن في مشروع دمر، وكم  تعب خالد كي يجعله صالحاً لإيوائهما، وبينما هي تؤدي امتحان السنة النهائية، وخالد في عمله، تسمع صوت انفجار يحطم صمت القاعة، ولما خرجت منها وجدت سيارات الإسعاف تقطع الشوارع، وتعرف ليلى أن مشروع  دمر قد ضرب من قبل الصهاينة، فيهرعان إلى البيت ليجداه (أسود مدخناً) مصدّع الجدران، مخلّع الأبواب والنوافذ، وأثاثهما الجميل مغطى بالركام والتراب).

وتتحدث في قصة (ياسمينا تسترجع أو تتخيل) عن خادمة هندية جميلة، تعمل في إحدى دول الخليج، بعيدة عن وطنها وأولادها، وفي ظل ظروف قاسية اجتماعياً وأخلاقياً ومهنياً فتثأر لفلذات كبدها الذين تركتهم في الهند، وتقدم على ذبح طفلي مخدومها، ولما اقتيدت إلى المخفر للتحقيق، لم يستطع المحقق أن يخرج بإفادة معقولة، فقرر تحويلها إلى مستشفى الأمراض العقلية.

تبين أخيراً أن (ياسمينا) المقهورة أقدمت على ارتكاب جريمتها النكراء،انتقاماً من إقدام  مخدومها على مضاجعتها عنوة في غياب سيدتها عن المنزل ومن المعاملة اللاإنسانية التي كانت تعامل بها هذه السيدة القاسية المتغطرسة خادمتها الفقيرة الغريبة المسكينة، الممنوعة من السفر لمشاهدة أولادها في الهند، إلا بعد مضي خمس سنوات.

وتتحدث في قصة (المرسم) عن المعلمة (رباب) التي وجدت مقتولة من قبل حارس المدرسة الذي وجدها في مرسم المدرسة غاضبة من زوجها، إثر مشاجرة وسوء تفاهم بينهما، ولما حاول الحارس أن يغتصبها، هربت منه وسقطت على الأرض جثة هامدة.

لقد كانت الغربة وراء كل تلك الأحداث المؤثرة.. ف (رباب) وزوجها غربيان في الكويت، وكذلك الخادمة (ياسمينا) ويؤكد الأديب خالد عثمان أن الغربة هي التي أدت إلى فشل علاقة الزواج بين الفتاة والشاب في قصة (الضباب)، وتفويت فرصة الزواج التي كان يمكن أن تحصل بين المدرسة والشاب الذي تعرفت عليه منذ فترة وجيزة.

ويمكن أن ندرج عامل الغربة في كل ما كان يحصل للكثيرين من الشباب الذين تركوا أوطانهم وسافروا إلى الخارج لتوفير مبلغ من المال لشراء منزل، ولكنهم بعد مرور أعوام من العمل الشاق والغربة المضنية، يعودون ليجدوا أن ما جمعوه بشق النفس لا يمكن أن يشترى لهم ولو بيتاً متواضعاً في الضواحي.

إن من يقرأ قصص ملك الحاج عبيد في مجموعاتها الست، يلاحظ بأن الاغتراب والقهر والتشاؤم يطغى على أبطالها، فهم بالإجمال مأزومون، تطلعاتهم كبيرة وبالتالي خيباتهم كبيرة، في أذهانهم صور جميلة لحياتهم ولمجتمعاتهم، لكنهم لا يستطيعون تحقيقها فيتأزمون ويحبطون.

لقد استطاعت أن تكشف في قصصها المحبوكة بدقة ومهارة وحرفية زيف الواقع المعيش، وتعريه على حقيقته، وتستمد منه جميع أحداث هذه القصص المشوقة التي هدفت فيها إلى إنصاف الفقراء والمقهورين والمعذبين في الأرض، وتكون صوت من لا صوت له.

بقي أن نشير إلى ناحية بارزة في قصصها، ألا وهي تأثرها بالطبيعة، وتعترف في إحدى المقابلات التي أجريت معها، أن طبيعة مدينة جبلة الجميلة، حيث يتعانق البحر والجبل، ويلتصقان بالسماء في حنان، رسخت مفاهيم الجمال في وجدانها وذاكرتها، وقد بدا هذا التأثر واضحاً في مجموعتها (قال البحر)، فما من قصة فيها  كما يقول الأديب والروائي حسن حميد  إلا (وفيها ذكر لمفردات الطبيعة، ووصف لطقوسها وأجوائها، فالبحر سيد القصص، وبطلها المطلق، تقدمه لنا بلا افتعال أو تصنّع أو عموميات، نحسه قريباً منا وحنوناً وألوفاً بكامل تفاصيله الصغيرة التي لا يدركها  عادة  إلا الذين يعيشون قربه).

العدد 1105 - 01/5/2024