الزركلي.. شاعر الوطن وفارس الكلمة

لم يكن خير الدين الزركلي مرآة لعصره فقط لقد كان منبراً أدبياً وفكرياً ناصعاً، وشكّل المنهل الأساسي لجيل جديد من المثقفين والأدباء الذي ربطوا بشكل وثيق بين الكلمة والواقع الاجتماعي آنذاك، فالزركلي الذي ولد في بيروت عام 1893 ونشأ وترعرع في كنف أسرة دمشقية حُكم عليه بالإعدام أكثر من مرة وتعرض للنفي والملاحقة وذاق لوعة الغربة، وكل ذلك في سبيل قضيته الأسمى والأرقى والأجمل وهي استقلال وطنه وحريته.

أدب خير الدين الذركلي يستحق الوقوف عنده كثيراً، لا لإشكالية أدبه ولكن لمدى الترابط بينه وبين مرحلة تاريخية اتسمت بالديناميكية السياسية العالية لدرجة طغى معها الأدب السياسي على الأشكال الأخرى وأصبحت فيها القصيدة الوطنية معه نمطاً أدبياً سائداً، لذلك لم يكن عبثاً أن كان لقب الزركلي في الأوساط الأدبية آنذاك شاعر الوطن.

أجل لقد احتل الوطن الحيز الأكبر من شعره. لقد كان هاجساً أكثر منه حالة حماس واندفاع ناجم عن التأثر بأفكار تلك الحقبة، ولعل هذا ما دفع شوقي بغدادي للقول:

(لم يكن حب الوطن بالنسبة لخير الدين الزركلي، المدجنة والتلاميذ الصغار، لقد كان تجربة حية خطرة كالقنابل الموقوتة التي نحملها تحت ثيابنا، والتي تهدد بنسفنا في أي لحظة).

لقد حمل الزركلي وطنه في قلبه وذاكرته أينما حل، ورغم الاستقبال والحفاوة التي كان يقابل بها في كل مكان كان يذهب إليه إلا أنه ما من مكان أو بلد استطاع أن يدخل البهجة إلى نفسه كربوع بلاده

إننا نجد في قصائده الوطنية مزيجاً من الرقة والعذوبة التي تعبر عن أسمى مشاعر الحب والحنين والشوق لتلك الجغرافيا التي احتضنته شاباً وضمت رفاته في ثراها كهلاً.

العين بعد فراقها الوطنا

لا ساكناً ألِفت ولا سكنا

إن الغريب معذّب أبدا

إن حلّ لم يْنعم وإن ظَعنا

لو مثّلوا لي موطني وثنا

لهممتُ أعبد ذلك الوثنا

 ونرى فيها العنف والسخط والدعوة إلى الثورة واستنهاض الهمم للوقوف في وجه الطغاة المعتدين

وعلى الرغم من هذا التعلق الواضح بالشام في قصائد شاعرنا إلا أن ذلك لم ينفِ البعد القومي عنده، وحبه الذي وسع الشام كان كبيراً جداً ليشمل البلاد العربية كلها من المحيط إلى الخليج:

لِبغداد والشام والقاهره

 وصنعاء والمغربِ المؤنسِ

وبِيدِ تِهامة، والحاضره

 ونجدٍ ومن حلّ في تونس

هوى دائم في ثنايا الحشا

 وحب سقْته النوى فارتوى

لقد تأثر الزركلي بمجمل الأحداث السياسية التي عاشتها المنطقة العربية وانبرى مدافعاً عن قضايا الأمة بأكملها، فهاجم اتفاقية سايكس بيكو وأثرت فيه نكبة 1948 واحتلال فلسطين ودعا للوقوف وقفة الرجل الواحد إلى جانب مصر في حرب الـ 56 مستخدماً في كل ذلك كلمته الحرة سلاحاً، وموظفاً شعره أداة لاستنهاض الهمم وتحريك الشعوب.

لقد كان خير الدين الزركلي في شعره ابن بيئته، وتأثر بشكل واضح بتلك التيارات الأدبية التي كانت تدعو للعودة إلى التراث العربي وإحيائه من جديد.

إن شعر الزركلي يعطي انطباعاً واضحاً بمدى تأثره بالتراث الأدبي للحقبة العباسية، وإن كان واضحاً اهتماهه بالموشحات بشكل أساسي نظراً للعنصر الغنائي الموجود فيها وقد تجلى ذلك في شعره

عصفورة النيربين غني

 وروي حديث الأنين عني

أنا المُعنى وما المُعنِّي

 غير حنينٍ أذاب مني

 شغاف قلبي وحسن ظني

ولكن رغم هذه النزعة نحو القديم إلا أنه جدد في مجال الشعر، فنرى في قصائده اهتماماً كبيرا بالموسيقى المتنوعة الأنغام من خلال اعتماده على أوزان خفيفة قصيرة أو مجزوءة، ونرى في قصائد أخرى تقارباً مع تلك الأنماط الشعرية لأدباء المهجر التي وظفت فيها البحور المجزوءة أو المشطورة كخطوة لتطويع الشعر بما يتناسب مع الفكرة المطروقة ويبدو ذلك واضحا في قصيدته (يا زمان):

من ترى تبسم لي يا زمان – ألا حنان

أسلمتني لا أنس لا أمان – للحدثان

أبكي دياراً خُلقت للجمال – أبهى مثال

إن هذا التوجه للتخلص من القيود الصارمة للشعــــر وإن كان بشكل جزئي يعتبر خطوة جريئة عكست رغبة الشاعر في الثـــــــــــورة لا على الواقع السياسي والإجتماعي آنذاك فقــــــــــط، ولكن أيضاً في تطويع اللغة وتطوير الشعر ليكون أكثر قدرة على التعاطي مع القضايا المعاصرة .

أجل لقد كان الزركلي ثائراً على المستوى النضالي وثائرا على مستوى الكلمة والحرف واستحق عن جدارة لقب الشاعر البطل، فالأبطال والشعراء كما يقول لامارتين من سلالة واحدة لأن الأبطال يفعلون دائماً ما يتصوره الشعراء.

العدد 1105 - 01/5/2024