عصر ثقافة أم ثقافة عصر؟!

المثقف: تعريف لإنسان امتاز عن بقية أبناء مجتمعه بقابلية التفكير والإدراك لتحديات تواجه محيطه الاجتماعي، وبمخزون معرفي متمايز أيضاً، إضافة إلى اتخاذه مواقف محددة في قضايا حساسة وحاسمة، وبعبارة أخرى المثقف من يقوم بإنتاج الثقافة والفكر، ومن ناحية أخرى هو كل من عركته الحياة وكسب خبرتها ونهل من ثقافتها وتعلم كيف يستفيد منها، ويأتي العلم ليهذب هذه الثقافة ويصقلها في حال اقترن بها الاقتران المطلوب والصحيح، فالتعليم ليس مصدراً لمشروعية المثقف، فليس كل متعلم مثقف.

ومن ناحية أخرى فالمثقف لا يلحق الشارع بل يقوده ويُشكل مثالاً أخلاقياً له، فالمثقفون والمفكرون هم المسؤولون عن بناء المجتمعات وعلى كاهلهم تتقدم الأمم وتزدهر الحضارات، ولكن إذا ما انحرفوا عن مسارهم فعلى كواهلهم أيضاً تقع مسؤولية انهيار المجتمع وتقهقره، لذا فإن على المثقفين أن يعملوا على تشخيص المشاكل التي يعانيها مجتمعهم وأن يسعوا لبلورتها ووصف الحلول لها والتعاون مع أصحاب القرار على متابعتها ورسم صورة واقعية لقضايا الناس ومشاكلهم، وتسليط الضوء عليها من أجل استشراف رؤية لحلول ممكنة، مع التأكيد أنَّ قيادة المثقف للشارع لا تعني سطوع نجمه على حساب الشارع، بل تعني مسؤوليته الكاملة عنه وقيادته إلى بر الأمان، لا أن يبدأ بالقيادة ويصل بالشارع إلى المجهول ثم يتركه لمصيره ويهرب بحجج واهية.

في خضم الأزمة التي تعصف ببلادنا منذ أكثر من أربع سنوات، أين هؤلاء المثقفون الذين يتسمون بالصراحة والنزاهة ويسعون لتأسيس مجتمع ديمقراطي تعددي على أساس المواطنة والمساواة؟ وأين هم من السعي لتحقيق العدالة وتعزيز الهوية الوطنية بدلاً من الهوية المناطقية والطائفية المنتشرة؟! لماذا نتجاهل أن صوت المثقف في مجتمع حضاري أقوى من البنادق في التأثير على الرأي العام؟!. هل يصمت المثقفون الرافضون للواقع القائم في مجتمعاتنا والمدركون كم أصاب العفن تفكيرنا، فهل يصمتون خوفاً أو دراية أو مصلحة.. إلخ؟!

غياب أم تغييب..!

إنَّ ضعف الحياة الثقافية ليس وليد اليوم وإنما هو انعكاس لسنوات وعقود طويلة، كذلك هو غياب دور المثقف الفاعل اليوم، الذي عزاه الكثيرون إلى السياسات الممارسة ضدهم طيلة السنوات الماضية، فقد جهد الكثيرون خلالها في تكبيل المثقفين بقيود سياسية وكم أفواهم إلا إن نطقوا بما يلائم مصالح السياسي، فما كان إلا أن انكفأت جبهة المثقفين على نفسها، مقابل فئة دخلت في اللعبة التي حاول السياسيون استدراجهم إليها حتى صاروا أسرى تفسيرات ضيقة الأفق، مما ساهم في تسعير الخلاف وتأصيل الفرقة والانقسام بين من يفترض بهم إشاعة المحبة والوئام بين الناس. وبعبارة أخرى، الثقافة انعكاس للحياة السياسية في البلاد، وهامش الحرية المتاح للمثقفين لإضفاء حياة ثقافية وحركة تنويرية في البلاد يتمركز بيد السياسيين الذين لا يرى أغلبيتهم أهمية الدور الاجتماعي والحضاري للثقافة، أهمية دورها التربوي، قيمتها في النضال الاجتماعي والسياسي، ودورها في صيرورة إنسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري. كل ذلك أدى لتحول الكثير من المثقفين إلى أشباه مثقفين باتوا يملؤون مجتمعنا واضعين مصلحتهم في المقام الأول، وهي الشيء الوحيد الذي لا تتغير نظرتهم إليه أينما كانت، وبات معظمهم من أنصار ميكافيلي في مقولته الشهيرة فقط (الغاية تبرر الوسيلة)، وراحوا يتلهّون بملذاتهم ويفتشون عن مصالحهم ولا يعدمون وسيلة لزيادة رأسمالهم المادي والمعنوي غير عابئين بما يصيب الوطن ولا بمعاناة المواطن، فبعد أن كان المثقفون على الدوام في الصفوف الأولى للتحركات الشعبية، باتوا اليوم ينحصرون في حجرات البث الفضائية. وأمسى الشباب ذوو العنفوان والطاقة وأصحاب المهارة أسرى الشبكة العنكبوتية، يقبعون خلف شاشاتهم معتبرين أنفسهم (ثواراً).

العدد 1104 - 24/4/2024