حكمت محسن… رائد المونولوج السوري بين سحر المسرح والمونولوج

 لم يكن الفن عنده فقط للفن، ولا الضحك للضحك، بل كان محصلة لكفاح يومي، وطني وإنساني، يؤمن به ويتبناه، ويعبر عنه بكل ما يملكه من موهبة هو (حكمت محسن) عميد الأدب الشعبي.

ولد حكمت محسن  عام 1910 في استانبول لأبوين سوريين، والده (صبحي) الذي انخرط خلال الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش العثماني، ما اضطره لإرسال زوجته وابنه إلى دمشق ليتابعا حياتهما في دار أهل زوجته  قبل أن توافيه المنية خلال الحرب، فعاش حكمت مع أمه برعاية جده  الضابط الذي توفي بعد فترة، مما اضطر والدته خيرية للعمل معلمة للأطفال كي تعيل ولدها الذي ما كان منه وهو ابن التاسعة من العمر إلا الانخراط بالعمل لمساعدتها.

سكن (حكمت) مع أمّه (خيرية) في عدّة غرف بالأجرة في سوق ساروجة والمهاجرين وقبر عاتكة والقنوات وباب سريجة، مستمتعاً بقراءة الكتب على ضوء الشمعة بعد أن تخرج في مدرسة الإسعاف الخيري وهو ابن العاشرة، عانى من الحرمان والجوع بالرّغم من محاولاته الفاشلة في تعلّم مهنة ما وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، ودخل معترك الحياة العملية فعمل أجير عند البقّال، الخضري، الكوّا، الحلاّق، الحدّاد، النّجار، الخيّاط، ولم ترق له إلا مهنة التّنجيد، فأحسن التّعامل مع أنماط النّاس كافّة، وتعرّف على طبائعهم وأحاديثهم وأساليب حياتهم، وقصصهم وحكاياهم الشّعبية، فكان يدوّنها لتكون أساساً لمسرحيّات فكاهيّة، إضافة لما تعلمه من أمه التي رضع منها الفن فقد كانت تصحبه لحفلات الاستقبال وتنصت إلى الحكواتي في مقهى مصلبة العمارة بدمشق، ثم تحكي له ما سمعت، فكانت معلّمه الأول، والحكواتي معلّمه الثاني.

لم تستطع كل المهن أن تمحو موهبته الفكاهية، وما إن تجاوز الطفل الرابعة عشرة من عمره حتّى وجد نفسه يحضّر عرضاً مسرحياً لفرقة (أمين عبد الله) القادمة من مصر، فسحرته كواليس المسرح ومفاجآته، وأشعلت في قلبه شرارة توق، لم يقدر الليل على إطفاء نيرانه، ومع بزوع فجر نهار جديد، ذهب ليقابل الفنّان المصري أملاً بالانضمام إلى فرقته المسرحيّة متطوّعاً دون أجر، فوافق الفنّان على طلبه وانضم إلى الفرقة إبان عروضها في سورية ولبنان، وبعد عودة الفرقة إلى مصر شكل (حكمت محسن) مع لفيف من أصدقائه فرقة تمثيلية بدأت بتقديم التمثيليات في بعـض البيوت الدمشـقية الكبيــرة، إلى جانب تقديم الأغاني والمونولوجات الناقدة التي كانت  كلماتها تهاجم الاستعمار الفرنسي، واستطاعت أن تستقطب جمهوراً كبيراً، ثم انتقل حكمت محسن مع فرقته ليقدم عروضه على مسرح العباسية أكبر المسارح الدمشقية آنذاك.

عاش حكمت محسن مع فرقته بالجوع مما اضطره للعودة  إلى مهنة التنجيد لتحصيل لقمة العيش فانخرط في تأسيس أوّل نقابة مهنيّة للمنجّدين في سورية، وأضحى أوّل رئيس لها، ثم علّم نفسه الموسيقا سماعاً، وعزف على العود، ولحّن ما كان يكتبه ويؤدّيه من مونولوجات غنائيّة، تميّز حكمت محسن بقدرته الهائلة بالرغم من نزقه بقدرته على التّعامل مع النّاس وتسليتهم، وإسعادهم وتقديم المتعة والفائدة لهم، مؤكّداً لهم طبيعتهم الخيّرة، محوّلاً غضبهم أو عدوانيّتهم إلى ضحكات، دون أن ينسى أثقال المسؤوليّة الإنسانيّة الملقاة على عاتقه، فكان رائد المونولوجات (المسرح، الإذاعة والتّلفزيون)، ومبتكر  الشّخصيات الدراميّة الشعبيّة مثل (أبو رشدي، أبو فهمي، أبو شاكر)، ثمّ تتابعت أعمال حكمت محسن، مثل (سلسلة حكايات الجدّة،أنسَ همومك، اضحك واربح، سهرات الفن) وغيرها.

بدأت المرحلة الأهم في مسيرة (حكمت محسن) مع افتتاح الإذاعة الوطنية السورية بعد الاستقلال، فكان من أوائل العاملين فيها إذ بدأ بتقديم التمثيليات الإذاعية التي كان يكتبها ويخرجها ويمثل فيها واشتهر بالشخصية الشعبية (أبو رشدي)، إلى جانب (فهد كعيكاتي) بشخصية (أبو فهمي)، وأنور البابا بشخصية (أم كامل)، ثم انضم إليهم (تيسير السعدي) الذي التقاه  حكمت محسن عام ،1948 في أحد الأسواق، فأطلعه على قصة كتبها باللّغة الدّارجة داعماً إياها بالأمثال الشعبية، فنالت إعجاب تيسير السعدي، وكانت بداية تشكيل الثّنائي، فسجّلا في إذاعة الشرق الأدنى في قبرص B.B.C))، مسرحية (صندوق الدنيا عجايب)، والتي نالت إعجاب الجماهير.

وكانت هذه التمثيليات تعالج القضايا الاجتماعية بأسلوب شعبي قريب من عامة الناس، ومع افتتاح التلفزيون عام 1960 بدأ بتقديم التمثيليات التلفزيونية على الشاشة الصغيرة، وبالتاريخ ذاته شكل حكمت محسن (فرقة المسرح القومي) التي أسبقها ونزولاً عند رغبة مديرية الفنون في وزارة الثقافة بتأسيس (فرقة المسرح الشعبي)، كما شكل (فرقة أمية للفنون الشعبية)، و(فرقة مسرح العرائس) واقترح أن تقدم فرقة المسرح الشعبي التابعة لوزارة الثقافة عروضها في كل حي دمشقي.

كان حكمت محسن الرائد الأول في صناعة الكاراكترات الكوميدية السورية، وأهمها على الإطلاق كاراكتر (أم كامل، أبو فهمي)، يُعتبر حكمت محسن مؤسس الدراما الشعبية السورية إذاعياً ومسرحياً وتلفزيونياً، والذي قدم على مدار أكثر من خمسين عاماً من القرن الماضي الكثير من الروائع التي كانت تحاكي وتترجم الواقع الاجتماعي، وقد حُفظ تراث هذا الفنان الكبير في أرشيف الدراسات الشرقية في باريس.

قال له أحد أصدقائه ذات يوم: يا أستاذ حكمت، أنت تكتب كل يوم تمثيلية، (يا أخي) من أين تأتي بكل هذه القصص؟، فأشار بيده إلى سيل البشر العابرين أمام الدكان وقال: انظر إلى هؤلاء الناس (هدول بقى سيدي)، كل واحد منهم قصة، وكل واحد منهم حكاية، ماداموا يمرون من هنا، لا تخف على حكاياتي من النضوب، وخلف كل باب قصة).

أصيب عميد الأدب الشعبي، (حكمت محسن) بالفالج فأودى بحياته في 19 كانون الأول 1968.

صحيح أنّ حرفة التّنجيد قد اندثرت نوعاً ما  لكن فنّ المبدع حكمت محسن لا يموت، ولا بدّ أن نحيي فنه، وتطّلع عليه الأجيال الجديدة.

العدد 1105 - 01/5/2024