بول دي سويف>> لميخائيل روم :في سبيل الوطن وشرفائه>> !

كان مكسيم غوركي شديد الإعجاب بالكاتب الفرنسي غي دي موباسان، ولا سيما بقصته (بول دي سويف) التي تجري أحداثها حرب عام 1870 في فرنسا وتكشف بخاصة – وكان هذا شديد الأهمية في رأي غوركي في ذلك الحين – عن وضاعة الأخلاق البورجوازية. وكان غوركي كذلك يفخر أنه هو الذي نصح (صديقه) ستالين في الماضي بأن يقرأ تلك القصة، فكانت النتيجة أن ستالين شاطر غوركي الإعجاب بتلك القصة. ومن هنا حين حقق المخرج ميخائيل روم فيلماً سوفياتياً مقتبساً من (بول دي سويف)، رأى غوركي، الذي كان صديقاً لروم أيضاً أنه سيكون من المناسب أن يدعو ستالين، وكان في ذلك الحين – أواسط الثلاثينيات – لمشاهدة الفيلم والتمتع بالشاشة وهي تنقل أحداث حكاية يحبانها معاً. لكن غوركي رأى في اللحظات الأخيرة أنه قد يجدر به أن يشاهد الفيلم قبل مشاهدة ستالين له، تداركاً لأية مفاجأة مزعجة. وهكذا شاهد الفيلم في رفقة ميخائيل روم. وهو، إذ دهش أمام حجم التغييرات التي أحدثها المخرج في التفاصيل وما شابه، سأله عما إذا كان في إمكانه إجراء تعديلات تقرب الفيلم من القصة، فرفض روم رفضاً كلياً. لذا، حين حل الوقت وجاء الزعيم لمشاهدة الفيلم، حرص غوركي على الجلوس إلى جانبه، كي يشرح له المشاهد ويفسر (أهمية) ما أحدثه روم من تبديلات محاولاً تبريرها. ولما استفحل الأمر التفت ستالين، بكل بساطة نحو غوركي وقال له: (هلا تسكت يا عزيزي؟ أنا أعرف أننا هنا أمام فن آخر له ضروراته الخاصة).

ميخائيل روم، كان يحلو له دائماً أن يقصّ هذه الحكاية بصدد فيلمه الأول هذا، والذي عرض في دورة مبكرة لمهرجان (البندقية) السينمائي، وأسبغ على مخرجه شهرة مفاجأة جعلته يعتبر من مقدم المخرجين السوفييت مع أنه كان لا يزال في الرابع والعشرين من عمره. فهذا الفيلم حُقّق في عام ،1934 وضمن ظروف كان روم يرى أنها جديرة بأن تُروى، خصوصاً أن الفيلم جاء في وقت كان المخرج الشاب يحاول جاهداً أن يعثر على طريق سينمائي له، مكتفياً هذه المرة بالإخراج، بعدما عمل لزمن مساعد مخرج وكاتب سيناريو وما شابه. ولنتركه هو يروي لنا ما حدث، إذ قال: (في نيسان عام ،1933 دعاني مدير دائرة السينما إلى مكتبه وقال لي على الفور وبلهجة قاطعة، إنني إذا تمكنت خلال أسبوعين فقط من كتابة سيناريو لفيلم صامت، ليس فيه أكثر من ستة ممثلين وخمسة ديكورات ويخلو من أية مشاهد جماعية تتطلب جمهوراً، ولا تزيد موازنته عن 150 ألف روبل – علماً أن موازنة أي فيلم صامت في ذلك الحين كانت تصل إلى ثلاثة أضعاف ذلك المبلغ، فيما تصل موازنة الفيلم الناطق إلى عشرة أضعافه -، سوف يعطيني الفرصة فوراً لتحقيق فيلمي الأول). وإذا قبل ميخائيل روم الرهان، اتجه على الفور إلى اختيار نص من (غي دي موباسان)، لإعجابه الشديد به، لأنه كان شديد الألفة مع الأدب الفرنسي الذي سبق له أن ترجم أعمالاً لفلوبير وزولا. وهكذا وقع الاختيار على (بول دي سويف). فهي تستوفي الشروط، ناهيك من كون أحداثها تدور أيام حرب 1870 بين الألمان والفرنسيين، تتيح فضح البورجوازية المنافقة، التي كانت أعدى أعداء (ديكتاتوريي البروليتاريا) في ذلك الحين. باختصار كان اختيار (بول دي سويف) مثالياً، فإذا أضفنا إلى هذا ما كان معروفاً من إعجاب ستالين الهائل بالقصة، يصبح طريق الفهم ممهداً تماماً.

والحقيقة أن النتيجة كانت جيدة جداً، ليس فقط بالنسبة إلى ميخائيل روم الذي وجد نفسه، بعد ذلك الفيلم، ينطلق بقوة، بل كذلك بالنسبة إلى السينما السوفياتية نفسها، إذ أتاح لها هذا الفيلم الذي كان يشهد صعود الستالينية الصارمة بأقسى ما يكون، أن يبعدها بعض الشيء عن مفاهيم (البطل الإيجابي) و(الواقعية الاشتراكية) وتمجيد العمال وما إلى ذلك. واستقبل العالم يومها هذا الفيلم على هذا النحو وأعطاه مكانته بسرعة.

يروي الفيلم، انطلاقاً من قصة غي دي موباسان، أحداثاً تدور في فرنسا عام ،1870 يوم كان نابليون الثالث أسيراً، والألمان يحتلون فرنسا. وما لدينا هنا هو تسعة مسافرين – يطلق عليهم روم بطريقة ساخر لقب (مواطنين) – يتنقّلون في عربة. ومنذ البداية نلاحظ أن المسافرين هم مجموعة من البورجوازيين من تجار وأعيان، يسافرون سفراً عائلياُ، ومن بينهم راهبتان. وكان يمكن للأمور أن تسير في دعة لولا أن مومسة تلقب بـ (بول دي سويف)، تنضم إلى الرحلة، لتهزّ العالم الهادئ المطمئن لأولئك الناس الطيبين. إذ منذ وصولها تثير لديهم حالاً من الاستنكار والرفض الكلي: كيف يسافر قوم شرفاء من هذا الطراز، مع فتاة هوى من هذا النوع… وتبدأ النظرات تتبادل، والتلميحات تتصاعد. بل إن الاستهجان يزيد حتى حين تقترح بول دي سويف على المجموعة، بكل طيبة وأريحية، أن يشاطروها طعاماً كانت جلبته معها. فالأشراف لا يأكلون مع الرعاع طبعاً.

لاحقاً عندما يهبط الليل، تضطر العربة ومسافروها إلى التوقف والمبيت في نزل على الطريق. وتمضي الليلة على خير، لكن عند الصباح يرفض الضابط الألماني الذي يتولى قيادة قوات الاحتلال في المنطقة، أن يسمح للعربة وركابها بمواصلة طريقهم، إن لم توافق المحظية الحسناء على مطارحته الهوى. طبعاً للوهلة الأولى لم يكن ثمة ما هو أسهل من هذا، ما دام الجميع يعرفون أن هذه هي مهنتها أصلاً. لكن الذي يحدث هو أنهم يفاجؤون بها ترفض رفضاً قاطعاً. لماذا؟ لأنها كوطنية فرنسية ترفض أن تساير عدواً لبلادها. فتتعقد الأمور على هذا النحو، ينقلب الموقف تماماً: ذلك أن أولئك البورجوازيين من أبناء الوطن المخلصين والمعادين أصلاً للألمان، لا يتوانون عن التدخل محاولين إقناع (بول دي سويف) – التي أضحت الآن وسيلة خلاصهم الوحيدة – بأن تستجيب لما يعرضه عليها الضابط، ليس من أجلها وأجلهم فقط، بل (من أجل الوطن أيضاً)… في النهاية، انطلاقاً من طيبتها تقبل بول دي سويف بأن (تضحي بشرفها) من أجل مواطنيها، لكنها تفعل ذلك وهي كالميتة أو كالمساقة إلى المشنقة. المهم أن الضابط إذ يحصل على مراده، يعطي الإذن للعربة وركابها بمواصلة سفرهم. وهنا يعود الموقف إلى الانقلاب من جديد: إذ ها هم البورجوازيون الآن يتجنبون بول دي سويف تماماً… إنهم يحرصون على الابتعاد عنها، وإشاحة وجوههم بعيداً كلما التقت نظراتهم بنظراتها… وها هي مكللة بكل أنواع العار في رأيهم: ليست فقط فتاة هوى، بل هي أيضاً تمارس مهنتها – من دون حياء – مع جنود الأعداء. ثم، حين يحل وقت الطعام ويبدو الجوع على بول دي سويف، يستنكف المسافرون عن إعطائها أية لقمة تقتات بها. فلا تجد المسكينة سوى جندي بروسي شاب كان مكلفاً بمواكبة العربة، يعطيها ما تسدّ به رمقها. واضح أن مضمون هذا العمل كان مهماً بالنسبة إلى السلطات السوفييتية التي وافقت على تحقيقه، غير أن ميخائيل روم عرف في الوقت نفسه كيف يجعل منه تمريناً سينمائياً حقيقياً، مستفيداً خير استفادة من التصوير في ذلك المكان المغلق، مركزاً على لقطات كبيرة – شديدة التعبير – للوجوه ما جعل حركة تنقل كاميراه بين الوجوه تبدو أقرب إلى أن تكون (سيمفونية سمات إنسانية حقيقية).

وإذا كان ميخائيل روم (1910 – 1971) قد جعل من هذا الفيلم مدخله إلى عالم الإخراج السينمائي، بعدما خاض في شبابه الأدب والرسم والنحت ثم خاض مختلف المهن السينمائية، فإنه واصل عمله حتى العام 1965 حين قدم واحداً من أروع أفلامه (فاشية عادية)، ومع هذا فإن عدد الأفلام التي حققها طوال ما يقرب من ثلث قرن، لم يكن كبيراً. أما أبرز أعماله، إضافة إلى ما ذكرنا، فتشمل (لينين في أكتوبر 1937) و(لينين في 1918 -1939) و(الحلم 1941) و(مهمة سرية 1950) و(جريمة في شارع دانتي (1956).

عن (الحياة)

 

العدد 1105 - 01/5/2024