الأرض بتتكلم عربي

 لعل قدر الحياة الأجمل، وروعة الأشياء في كمال تجلياتها فوق خارطة الوجود اللامتناهي، حتى قبة ذلك الفلك الكوني الذاهب باتجاه زرقته المطلقة، مع ذلك الوشاح الأرجواني المثبوث بين الوجود واللاوجود، والمعقول واللامعقول والمرئي والخفي في حضرة الغياب البعيد، النائي، والقصي لدرجة الذهول والمتعة، هذا كله ما كان ليوجد، أو يكون لو لم يكتمل هلال تجليات الجمال بلغة تحاكي الجمال بما يفوق إ’بداعاً، وتصويراً، وكشفاً لتلك الخفيات الأخاذة، وغناء يصعد بكمال الوجود فيما أبدعه المبدع، إلى ملكوت لا يرقى إليه إلا الشعراء، والملهمون، برهافة، البيان ونداوته الذي أبدع سحر الكلمة، وعذوبة النشيد الأبدي المعلق صداه بين جرس الترانيم، وهمس المآذن إلى الحياة كلما هل صباح جديد، أطلق جناحيه بامتداد الأبد الذي سيظل يردد في ذاكرة زمانه اللانهائي ما يبثه ناي الجرس والمئذنة من تواشيح تغرق الأذن بنجواها، وشجوها، كما تغرق الغصون بطلاوة، ونداوة ما تبثه العصافير، والبلابل، والفراشات، والوافدون إلى حقول الندى، والمبكرون إلى المواعيد مع المحراث والأرض، من مغنى يذيب الصخر نشوة، وينهض الأشجار، والأقمار، والأنهار.. لتغني.. بلغة أزلية واحدة الشجو، والهديل، أمَّ لغات الدهر العربية..

من هنا.. كان الشعر العربي مفتاح الجمال لكمال الوجود، وتجليات المغنى في سمع الخلود، من هنا كانت فرادة لغتنا، ورهافتها صوتاً في الآذان، وصدىً حياً في الأسماع التواقة للمغنى والمعنى، في لغة لا تحمل سواها سماتها، ولا صفاتها، ولا عذوبتها المحببة! حتى في لثغات الطيور، والطفولة التي تحبو إلى المستقبل بجمال الثرثرات والتمتمات فائقة العذوبة! لغة صافية نقية أصيلة بهية المطالع، والنهايات، وما بينهما فيض من السحر، قيل فيه: (وإن من البيان لسحرا)! هذا ما كان، ومن المفترض أن يستمر إلى أبد الآبدين، تتوارثه الأجيال.. جيلاً بعد جيل! ولكن فاجعة هجرات أسراب طيور الوطن ستكشف، في المستقبل القريب، ضروة الفاجعة المارقة، عندما تحن الطيور المهاجرة لأوطانها وأعشاشها، وحماها! فتلتقي البراعم التي شبت عن براعمها: يلتقي ابن العم بابن العم، وابن الخال بابن العمة، وابن الخالة بابن الخالة، بل والأخ بالأخ وأكثر من ذلك، هذا يتكلم الألمانية، وآخر السويدية، وآخر النرويجية، ورابع… الإيطالية، وخامس وسادس وعاشر وسبعين بعد المليون، يتفاهمون فوق تراب وطنهم بلغات التشرد والمنافي، ترطن ألسنتهم ببقايا العربية، ويتفاهمون بالإشارات والضحكات الساخرة، ومفردات المعاجم والقواميس الملتبسة التي لا تتقن التعامل مع لغة الخلود، والمغنى الأخاذ، عندئذ، سنعيد الحياة إلى سيرتها الأولى لتنهض الكلمة: الأرض بتتكلم عربي.

العدد 1105 - 01/5/2024