كيف لـ«يوسا» أن يقدم حفلة التيس.. الكتابة الصحفية تمرين يومي على اللغة!

حتى وإن كان (البؤس) عامّاً، فهذه (القاعدة) ليست ثابتة، شُذّ عنها في بلدانٍ كثيرةٍ، على سبيل المثال في أمريكا اللاتينية: ثمة (رواية) في الذروةِ من ازدهارها وأبهتها، ألقت بحضورِها على الأدب الروائي في العالمِ كلهِ، وكذلك ثمة (رياضة) – كرة القدم – هيمنت على رياضة كرة القدم في العالم كلهِ أيضاً، ولسنواتٍ طويلة..!

إنّ من يقرأ رواية (حفلة التيس) لـ(ماريو بارغاس يوسا)، و(ليس لدى الكولونيل من يُكاتبه) لـ(غابرييل غارسيا ماركيز) وغيرهما من الروايات في هذه القارة التي منحت سحريتها للرواية العالمية.. لابدّ سيرى ذلك، وطالما تساءلت: ترى لولا وجود (الديكتاتور) – ترخيو الدومينكان – كيف لـ(يوسا) أن يقدم (حفلة التيس)..؟! و..هنا نذكّر بالمناسبة، بأنّ الأغلبية من الروائيين في أمريكا اللاتينية جاؤوا من خلفيةٍ صحفية، إن لم يكونوا جميعاً قد اشتغلوا في الصحافة، فطالما كانت الصحافة هي المنبر الأثير لنفس المبدع وحاضنه الأشهى..!

مع ذلك، لطالما كانت العلاقة ملتبسة بين الصحافة والإبداع، ذلك أن الشعراء والأدباء كانوا دائماً يعانون من التمزق الداخلي بين انحيازهم وانصرافهم إليه بشكل تام، وضرورات الحياة التي تجعلهم مضطرين لمزاولة مهن أخرى يحصلون بواسطتها على لقمة العيش.

ثمة زمن مرّ، كان فيه الكثير من المبدعين، الذين (نزعهم) الغرور، وذلك بمجيئهم إلى ساحةٍ فارغة إلا منهم، ومن ثم كانوا أوائل من كتبوا في المنابر الصحفية، يوم لم يتوفر من يكتب على صفحاتها سواهم، فاعتلوا أكثر ما يكون الاعتلاء على أجنحتها، ونظراً لخفتهم، ولثقلها، لم يلبثوا إلا أن نظروا إليها جاحدين..!

عرفّوها- الصحافة – على أنها الكتابة غير الخالدة تارةً، أو أنها أدب اللحظةِ طوراً، وحيناً صنفوها على أنها استنفدتهم، ولم تترك لهم سوى النزر اليسير من الوقت ليقدموا (إبداعهم الثّر) في الروايةِ والشعرِ والقصة، مع أنها هي من روّجت لهم -وغالباً دون وجه حق- وأطعمتهم خبزَهم، وحتى لا نعمم، فثمة قلة من هؤلاء، رغم كل ما كتبوا في أجناسٍ أدبية، يصرّون على توصيف أنفسهم بأنهم (صحفيون) قبل كل شيء، أو هم كتّاب من بوابة الصحافة، وليس العكس، فهذا رياض نجيب الريس، رغم كل ما كتب في الشعر والنقد، ورغم تاريخه الحافل في النشر، وإصدار الكتب الأدبية وغير الأدبية، لم يجد ما يصف فيه نفسه أكثر من قوله: (لا أستطيع أن أعرّف نفسي إلا بكلمةٍ واحدة، هي أنني صحافي، صحافي أولاً، وصحافي أخيراً).

 (نزعهم) الغرور الذي جاءهم من أيام ما قبل الإسلام، يوم كان الشاعر – ذلك أنه لم يكن ثمة جنس أدبي آخر على ساحة القبيلة غير الشعر- كانَ الشاعرُ حين ذاك، هو وزير إعلام القبيلة، أو هو وكالة أنبائِها، يُمجّد من يُمجد، ويهجو من يهجو، أو يرثي من يموت من أحبائه، أو من رجال القبيلة، أو ينوح ويولول عند أطلالِ حبيبةٍ هجرته.

ولأجل تلك الغايات، فقد وقعت تلك الكتابات في الإنشاء والبديع، يدبجها الكاتب من (برجه العاجي) – كما صار يُعرف من مكمنه، حتى كانت أن أفلست تلك الكتابة، بل وصل ببعض الكتابات، على ما حمّل الكاتب نفسه، أو ما أوهمه المجتمع بتحمّله، من أنه المربي، والمُنّور، والهادي، لأن تصبح كتاباته أشبه بالأحفوريات، تحتاج إلى الرجوع إلى القواميس للكشف عن كنهها. ألم يصدق الكاتب – المبدع، أن لكتاباته طابع الرسولية، لاسيما الكتابات التي ذهبت باتجاه الطوباوية، والماورائية، والتجريد، والذهنية، لينكشف الغطاء البائس عن الأدب الرديء؟ وكان الرد عليه بلغة الصحافة الأقرب إلى الروح، تلك اللغة التي انتصرت مع قصيدة نزار قباني، الذي أدخل الشعر إلى المطبخ وغرفة النوم، ومع مجيء الكثير ممن كتب قصيدة النثر، صارت القصيدة تُلمس بالأصابع، ذهبت الأفكار التي كان يُقال عنها (الكبيرة) مع (بديعها) إلى المتاحف، وتخلى الشاعر المعاصر عن توسله ليملأ الدنيا، ويشغل الناس، وصار همه أن تعرفه حبيبته، أويشغل بال جارته، وكان هذا يكفيه، فالقارئ اليوم لايحتاج هادياً، بعدما وصل من الوعي حداً تفوق فيه على الشاعر نفسه، وإنما هو يحتاج إلى صديقٍ كاتب، يستطيع أن يكتب عن السرفيس، والشوارع، عن الكرسي، والسرير، و.الحقول، وعن كل الأشياء اليومية والمحسوسة، التي استعصت على الكاتب السابق، الذي كان ملاذه الميتافيزيقيا، صار كاتب اليوم- الصحفي، يقترب أكثر، ويكتب عن أشياء يستطيع أن يراها، ويلمَسَها، وقد ضيّعها سابقه في الذهنية، لتصيرَ الكتابةُ الجديدة هي البناء، ورصف المداميك، فيما بقيت الكتابة التي أفرزها (الزمن الجميل) – هكذا يصرون على تسمية أزمانهم- عبارة عن أكوام من مواد البناء فقط.

إن نظرة شبه شاملة إلى واقع الأدباء العرب منذ بداية القرن الماضي، تقودنا إلى استنتاج أن معظم هؤلاء توزعوا بين مهنتين رئيسيتين الصحافة والتدريس. وربما لا نجد صعوبة كبيرة في إدراك مغزى هذين الاختيارين.. وإذا استعرضنا غالبية الأسماء الأدبية منذ بداية القرن الماضي، لوجدناها موزعة جميعها بين مهنتي الصحافة والأدب، بدايةً من الشيخين ناصيف وإبراهيم اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، ويعقوب صروف، وجبران خليل جبران، وإلياس أبو شبكة، والأخطل الصغير، وطه حسين، والعقاد، حتى بدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، وصلاح عبد الصبور، وصولاً إلى أدونيس، وإحسان عباس، وإدوارد سعيد، ومحمود درويش، وكثر غيرهم.

إن الأديب والشاعر على وجه الخصوص يحس بعمق الانتماء إلى القصيدة دون سواها بحيث يرى في الكتابة عالمه الأثير وألويته المطلقة. في مقابل ذلك، وعلى صعيد الإبداع، صارت الرواية الجيدة اليوم هي التي تقرأ بقليلٍ من الوقت، وتقدم معلومة مفيدة، سواء كانت تسد ثغرة، أو فجوة في تاريخٍ رسمي حاول تغييبها، أو كانت بياناً أو منشوراً سياسياً، أو حتى قصة حب فاشلة، أو كانت تحقيقاً صحفياً عن مأساة حي شعبي رفض (الرقيب) نشره، فكان أن تحوّل إلى رواية، أو قصة قصيرة، أو إلى قصيدة، كتابة تعطي أفقاً أوسع لكل ما حولنا من أشياء وهموم يومية، لكن بمتعة جمالية عالية..!

 من قال إن التحقيق الصحفي ليس قصة، أو رواية، تحتاج إلى كتابةٍ من نوعٍ مختلف حتى تصلَ إلى القارئ، والعكس أيضاً، من قال إن الرواية على وجه الخصوص ليست تحقيقاً صحفياً.؟! وهكذا القصيدة والقصة القصيرة هي مقال، وتكاد اليوم تصبح الأجناس الأدبية أحد الأنواع الصحفية، أو تنضاف إليها، تماماً كالعمود الصحفي، والخبر، والريبورتاج، وغيرها من الأنواع الصحفية.

وهذا ما كان حاصلاً في بداية نشوء الصحافة في العالم العربي، التي غالباً ما قامت، ونهضت بسواعد الأدباء، إذ لم يكن الصحفي المهني المتعارف عليه اليوم قد توفر في البلاد العربية، ومن ثم كان هذا التجاور الجميل بين الأنواع الصحفية والأدبية على المنبر الصحفي ذاته، وأظن أن العودة إلى مثل هذا (التجاور) قد يمدُّ في عمر الصحافة بعض الوقت، تحديداً الورقية منها، والمطبوعة، لاسيما مع تهديدها اليوم بعشرات وسائل الاتصال و الإعلام السريعة.

الصحفيون الحقيقيون، هم من حطّم الحواجزَ بين الأنواع الصحفية والأنواع الأدبية، والكتاب الحقيقيون هم من حطّم الحواجزَ اليوم بين كل أنواع الكتابة للوصول إلى الكتابة عبر النوعية، ومن ثم الوصول إلى النص وحسب.

لكن.. هل كان يتحقق لهؤلاء مثل هذا الاجتياز للحواجز، حتى نفكر فقط بإمكانية التحطيم؟! أعتقد هنا تقعُ الإشكالية الكبيرة في كلٍّ من الثقافة والإعلام في سورية، وهي تتمثل في وجوهٍ كثيرة، فالإعلام والثقافة هما المساحة المهمشة الحزينة المعتكفة المهزومة في الزوايا، ولذلك كان (الصوت الذي لم يودِّ)! الصوت الخافت الذي بقي غير مسموع؟!

يمكن أن نتحدث عن شريحة أخرى، وهي الكتاب الصحفيون، وعلى عاتقهم تبقى مهمة التخويض في الوحل لأجل الوصول إلى الضوء في آخر النفق..!

العدد 1105 - 01/5/2024