صباح… أغنية لم تأتٍ بمثلها الحياة

بسمة لـيس الموتُ يطويها

 عندما التقاها اليوم صباحاً، لم يفاجئها مُقَبِّلاً عنقها من تفاحته الخلفية، محرّراً شعرها من أسره، ومُعْمِلاً أصابعه في خصلاته كما اعتاد، فقد اكتفى عن كل ذلك بمسحة حنون من كَفّه على رأسها. ولمّا سألته عن سبب هذا الحزن الذي يوشح وجهه ويطلّ من عينيه، قال:

رَحَلَتْ الشحرورة!

عن جدّ؟ (استفسرت بلكنتها الخاصة التي يحبها عندما تمد فتحة الجيم لتصير ألفاً)

وهل ترين أني في وارد المزح؟ ردّ هو متسائلاً، فأجابت بما معناه:

لقد عمّرت شحرورتك قرابة المئة عاماً، عاشتها بالطول والعرض، واقعاً وتمثيلاً وزواجاً. إضافة إلى الغناء، الذي أغنته غنجاً ودلعاً ودلالاً. فما عساها تريد من الحياة بعد؟

سحبات أُوفِها

طال الحديث عن الشحرورة وتشعّب.. بين (نصري) و(ميس).

نصري، المعجب بشخصية الشحرورة، وغِنى تعابير صوتها، الذي يرتاح على وارف من حزن وفرح وألم وأمل.

وميس، التي لا تجد كبير فارق، ما بين الشحرورة وقريناتها من المطربات..

هو، لا يتصور كم سيخسر الإبداع من رونقه، وكم ستفقد الحياة من نكهتها، لو خلت دنيانا من تنهدات الشحرورة وسحبات أُوفِها وتموجاته!

وهي، لا ترى في صباح ما يؤسطرها، من دون سائر مطربات زمانها!

مع فيروز وشادية

يقول نصري في تضاعيف ردّه على استفسارات ميس، بخصوص الصبوحة، وما تمخضت عنه مسيرتها الفنية:

أنا لا أعلم بالضبط، عدد ما قدّمت الصبوحة من أفلامٍ ومسرحيات وتمثيليات وسهرات. لكن ما أعلمه جيداً، أنها كانت بأعمالها تعبّر عن أحوالها بواقعية سحرية وعفوية آسرة، أكثر ممّا تقلد وتمثّل أو تؤدي دوراً..

لا أعلم ولا يهمني أن أعلم، كم مرة تزوجت، لكن ما أكده ذوو الصلة والاهتمام وأثبتته الأيام. أنها على امتداد حياتها، لم تخن زوجاً لها ولم تُهِنْ مطلَّقاً.

إلى ذلك فهو لا يعرف – كما يقول – الرقم الذي بلغته أغانيها. لكن ما يعرفه تماماً، أنها قد صوَّرت في تلك الأغاني، معظم ما يعتري النفس البشرية ويتجاذبها من ألوان العواطف والمشاعر.

ويذكّر نصري صديقته ببعض أغاني الصبوحة، التي درجت تسميتها، مع مُجايلاتها بـ(أغاني الزمن الجميل). فيما يدعوها هو بـ(أغاني الفن الأصيل)، مثل: عالليلكي.. عالبساطة البساطة.. يا دلع دلّع.. التي تنقل معها السمِّيعة، إلى جوٍ من الفرح والنشوة، حدَّ الرقص، وكثيراً ما حدث!

وياكاويني يا علي.. عيني يا عيني ادمعي.. وليش لهلق سهرانين.. التي تُشجي معها سمّيعتها، حدَّ البكاء، وكثيراً ما حصل!

لقد ذهبت صباح في محبتها أجواء المرح لنفسها وللناس من حولها، إلى حد أن أوصتنا قُبيل (مغادرتها)، كتابة على صفحتها في الفيسبوك، قائلة:

يا أحباب الصبوحة.. الصبوحة اليوم راجعة على ضيعتها.. على الأرض اللي حبتها.. الصبوحة راحت ع السما.. عند الرب الكبير. صباح الحياة، صباح الفرح، صباح الضحكة، بتودعكن وبتقلكن: ما تبكوا ولا تزعلوا.

ويكفي الصبوحة فخراً، يتابع نصري،أنها تُعدّ مع فيروز، المطربتين اللتين تحوزان على القسط الأكبر من قلوب المستمعين، وعلى الرصيد الأوفر في وسائل الإعلام. كما يُسجَّل للصبوحة، أنها وشادية، تُعَتبران أجمل وأنجح مَن غنىّ البنوّة والطفولة: الصبوحة في أغنيتي (أمّورتي الحلوة) و(أكلك منين يابطّة). وشادية في رائعتها الشهيرة (سيد الحبايب يا ضناي إنت).

مما يزيدني إعجاباً بالشحرورة وبفنها – وأنا سوري – محبتها لسورية، التي أفسحت لها مكانة خاصة، في فؤادها وفي فنها. فسورية كما وصفتها ذات حوار (هي مَنْ صنعت صباح.. ) وقد تبادلت سورية والصبوحة، المحبة والشوق والغناء، ومِنْ تلك الأغنيات:

سورية كبيرة وقلبا كبير

وبتساع الدنيا كلاّ

اشتقنا عليكي كتير كتير

وحلاّ نرجعلك حلاّ

سُلطانات الطرب

ما إن توقف نصري عن الكلام، حتى بادرت ميس إلى شكره على (هذه المحاضرة القيّمة) حسب تعبيرها، ما أعطاه الفرصة كي يسألها مستفسراً ومقلّداً لكنتها (في فتح الجيم وبوح عينيها):

عن جدّ؟

فتجيبه هي مستفسرة ومقلّدة أيضاً (في همس لسانه ومرس قلبه)، وكلّها ثقة وإعجاباً بمحبته الصبوحة، وبمعلوماته الواسعة والموثوقة عنها:

وهل تراني في وارد المزح؟

قد يشابه بعضنا (ميس) في موقفها من صباح.. وقد يجاري بعض آخر (نصري) في غرامه بها، لكن من الصعب على أيٍّ كان، التنكّر لحقيقة: أنه بفضل صباح وصوتها (الذي يحاكي نبع الباروك صفاءً، ونسيم بعلبك رقة، وصخر الشخروب صلابة) تهيّأ لنا أن نجتمع ونستمع ونسعد بإبداع شواهق القامات، من شعراء وملحنين، تركوا لمساتهم على جمالات الأغنية العربية، جسداً وروحاً، مثل:

ميشيل طراد.. توفيق بركات.. عبد الجليل وهبي.. سيد مكاوي.. رياض السنباطي.. محمد القصبجي.. فيلمون وهبي.. فريد الأطرش.. الرحابنة.. زكي ناصيف.. بليغ حمدي.. عفيف رضوان.. وليد غلمية.. نقولا المنّة.. جمال سلامة وغيرهم..

لقد غنت صباح وكرَّست نفسها في الغناء العربي، سحابة نصف قرن ونيّف، في زمن سلطانات الطرب،ك:

أسمهان.. أم كلثوم.. سعاد محمد.. نور الهدى.. هدى سلطان.. نجاح سلام.. حنان.. ليلى مراد.. سهام رفقي.. ووردة.

سيدة الأغنية الشعبية

تنتمي المرحومة (جانيت فغالي) المعروفة بـ(صباح) الاسم الذي أسبغته عليها المنتجة المصرية (آسـيا داغر) إلى زمن الأصوات القوية والوصول الصعب.. زمـن كانت فيه مقدرة الصوت وجمالياته الحقيقية، هي الرافعة الأساس لوصوله وانتشاره.

كثيرون كَتبوا عن صباح وفنها ودورها في سيرورة الأغنية العربية عموماً، والأغنية في بلاد الشام خصوصاً، في مقدمة هؤلاء: إلياس سحاب.. فوميل حبيب.. كمال النجمي وصميم الشريف الذي جاء في كتابه المعنون بـ(الأغنية العربية):

(استطاعت صباح أن تحقق طموحاتها، وغدت خلال ثلاثين عاماً، سيدة الأغنية الشعبية الدارجة، والأغنية الشعبية المتطورة عن أصل فولكلوري، وقد ساعدها في ذلك صوتها الجبلي وبيئتها الريفية وإرادتها القوية).

جسد يرقد وروح تُرفرف

ها هي ذي صباح الأسطورة تعود يوم 26تشرين الثاني 2014 إلى بيتها و(بويتاتها) في (بدادون).. البيت الذي سمع صرختها الأولى في  10 تشرين الثاني 1927. تعود (عالضيعة) التي طالما غنّتها وأغنتها طرباً وشهرةً.

.. تعود الشحرورة إلى واديها، في جبل لبنان.. الذي أشبعته حُبّاً وغزلاً ووفاء.

تعود لترتاح من عناء سفرها الطويل.. لترقد في مثواها الأخير، إلى جوار والديها (جرجي) و(منيرة) مفترشة وملتحفة تراب لبنان، الذي تعشقته بكل مسامٍ من مساماتها، وبكل خفقة من فؤادها..

تعود الصبوحة لتستودع تراب الأرز – الأغلى من الذهب- جسدها، فيما تُرفرف روحها فوقه مُغنِّيةً:

يا لبنان دخل ترابك

دخل التلج الفوق بوابك

مهما غبنا وتغربنا

الله بيعلم شو تعذبنا

وشو كنّا نبكي ع غيابك!

 

العدد 1105 - 01/5/2024