المصالحات الوطنية

يرى البعض أن المصالحات الوطنية مفهوم جديد، وهذا غير دقيق، وربما يقصدون بالجديد أنه مرادف الوطنية الذي تبنته الأمم المتحدة في بعض المصالحات في القرن المنصرم، وبسبب اعتبار صموئيل هانتغتون أنها بعد نهاية الاستعمار وانطلاق عجلة الإصلاح وترسيخ مفهوم المواطنة، وتفعيل دور المؤسسات في ظل التعددية الحزبية، وربطها بالتطور الثقافي والسياسي، وهذه الصفات مقومات لا خلاف عليها من حيث المبدأ.. ولكن الصلح والمصالحة كتعابير لغوية أو ممارسات عملية هي قديمة، من صلح الحديبية، إلى صلح برست.. إلخ، ولم تكن حدود الدول مرسومة كما هي الآن، لذلك كانت تأخذ طابع الصلح بين شعبين أو قوميتين أو دينين.. ولم تكن الحدود بالمعنى الوطني والدولة بمفهومها الحديث قد نضجت.. لذلك ينصرف التفكير والمفهوم كتحصيل حاصل إلى مصالحات العصر الحديث التي أخذت تسمية (مصالحات وطنية)، وتحققت في عدد غير قليل من الدول (جنوب إفريقيا، إيرلندا الشمالية، الجزائر، ليبيا، العراق، اليمن، أوربا الشرقية، وأخيراً وليس آخراً سورية).

ورغم المفاهيم العامة للمصالحات الوطنية، إلا أن لها في كل دولة خصوصيتها، وبالتالي خصوصية مصالحاتها، لأسباب داخلية وخارجية ومفاهيم مختلفة. وما يهمنا في هذه المقالة هو الحالة السورية، للتوصل إلى مصالحة حقيقية تقوي التماسك الاجتماعي، في ظل مسؤولية اجتماعية لكل أطراف المجتمع، كواجب وطني يدعو للتوافق ونبذ كل عوامل التناحر، والتطلع إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يتوافق مع إرادة الشعب السوري.

قبل وضع رؤيتنا للمصالحة الوطنية في سورية، لابد من التذكير بالأسباب التي أدت إلى العنف المفرط الذي طال كل شيء في سورية، فهناك من يعتقد أن الأسباب داخلية، وهناك من يعتبرها خارجية.. ونحن نقول إنه فعلاً هناك أسباب داخلية وأخرى خارجية، وحزبنا الشيوعي السوري الموحد ذكر الأسباب الداخلية في تحليلاته أكثر من مرة، ويمكن الرجوع إليها، وكذلك الأسباب الخارجية (إقليمية، دولية)، ولكن من الناحية السياسية.. أما ما يتناسب مع الموضوع من الأسباب الخارجية، فإن الغرب بشكل عام وخاصة مويدي إسرائيل حرضوا المجتمعات الدولية ضد العرب، وربطوا بينهم وبين العنف و(الإرهاب العربي) عموماً. وبعد تشكل محور المقاومة تم التركيز على الدول والأحزاب والتنظيمات المقاومة لإسرائيل، وإذا أخذنا أمريكا مثلاً نجد أن مؤيدي إسرائيل كانوا يزعمون أن العرب يميلون بالفطرة إلى الإرهاب والعنف والإجرام، ثم انتقلوا إلى التحريض على كل أمريكي ينتقد إسرائيل أو يتعاطف مع القضية الفلسطينية أو مع أي قضية عربية، وفعلاً حققت هذه الحملات نجاحاً ملموساً ظهر جلياً بعد تولي هنري كيسنجر وزراة الخارجية. فقد جرى إزاحة كل شخص ينبس ببنت شفة متعاطفاً مع أي قضية عربية، أو ينتقد أي عمل إسرائيلي مهما كان ولاؤه لإسرائيل!

وكذلك الأمر في بريطانيا، ووصفوا العرب بأنهم جماعة بشرية تتصف بالميل إلى العنف والتطرف والتخلف، ووصفوا من يتهم إسرائيل بأنه (يفتقر إلى الالتزام بالقيم الإنسانية السليمة).

وعندما تولى طوني بلير زعامة حزب العمال ورئاسة الحكومة، قام بتصفية كل من ينتقد إسرائيل، أو يقول كلمة حق في القضايا العربية، مثل روبن كوك وكلير شورت.

ولم يختلف الأمر كثيراً في فرنسا، وتم التركيز في هذا المجال على أعمال العنف التي يقوم بها المهاجرون في فرنسا، واعتبارها معبراً عن الشخصية العربية العدوانية.

ولذلك ليس غريباً أن تكون هذه الدول من أكثر الدول عداء لعرب عموماً، ولسورية خصوصاً، لأنها ركن أساسي في المقاومة ضد إسرائيل، ولو كان ذلك عبر الإرهاب. وفي هذا السياق من الضروري البحث عن مصالحات وطنية تقي المنطقة من الشرور المحدقة بها بغض النظر عن أسبابها محلية أم أجنبية.

من السذاجة السياسية الاعتقاد أن تغيير النظام وتنحية رموزه وأركانه يحقق المصالحة والعدالة بصورة ميكانيكية، لأن المصالحة الوطنية إذا اعتبرناها مشروعاً فهي تحتاج إلى أسس وأهداف، لا إلى لقاءات إعلامية أو بيانات سياسية، لأنها معنية بكل أبناء الشعب السوري مهما اختلفت انتماءاتهم العراقية أو الدينية أو السياسية، وتشمل التيارات السياسية والفكرية والثقافية، وتأمين المشاركة الحقيقية للجميع، لأن فكرة الإقصاء والسيطرة وحتى استخدام الكثرة العددية في الديمقراطية إذا لم تكن ضمن سياقها، ستتحول إلى إقصاء واستبداد وستعود التناقضات من جديد.

لذلك لابد من حوار وطني شامل يتم التوصل من خلاله إلى ميثاق وطني للمصالحة الوطنية، يتضمن أسس الدولة الحديثة العلمانية بكل مقوماتها.

أما المصالحات التي انطلقت في البلدات والأحياء السورية المختلفة، وفي مدينة حمص، فهي بداية الطريق، رغم النظرة المزدوجة إليها، فقد وجدها بعض رموز النظام والإعلام شبه استسلام أو عودة إلى حضن الوطن وغيرها من التعابير، ولكن بعد الخطاب الأخير للسيد الرئيس، عاد الحديث بلغة أكثر توازناً واتزاناً، بل ارتقى إلى مطالب موضوعية ومتوازنة.

وفي المقابل ورغم أن المعارضة علناً وضمناً، اعتبرت الظاهرة دلالة على ضعف النظام، يجد آخرون فيها ضعفاً في مصداقية المعارضة، وانقساماتها المستمرة، وهناك من وصفها باتفاقات أمنية لا ترقى إلى مستوى المصالحة الوطنية.

وبغض النظر عن الصحة أو عدمه في التوصيف من أي طرف كان، فإنه بات ملموساً أن حسم الحرب في المدى المنظور غير ممكن، وأن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو التنظيمات التكفيرية ليست أحسن حالاً من الأماكن التي تحت ظل النظام، وكثرة التنظيمات المسلحة التي تجاوزت 1500 تنظيم على أقل تقدير، وانقسامات معارضات الخارج وتقلباتها التي فقدت احترام السوريين لها نتيجة ارتباطها بدول معادية لسورية والعرب، وكذلك تمويلها من دول لا تمت للديمقراطية والتعددية والحرية بأية صلة، وكذلك التعاون المعلن وغير المعلن مع إسرائيل، كل ذلك رسخ القناعة بأن الحل سوري، وبين السوريين أنفسهم، وأن ما دفعوه ثمناً غالياً جداً على المستويات كافة المادية والبشرية والروحية والاجتماعية، وبالتالي لابد من مصالحة وطنية جدية أساسها الحوار الوطني الشامل.

جاء في تقرير المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الموحد المقدم إلى اجتماع اللجنة المركزية للحزب بتاريخ 12 أيلول 2014: تعزيز المصالحات الوطنية ورفعها إلى مستوى المصالحات السياسية الوطنية، والسعي إلى عقد مؤتمر وطني لكل الفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تلتقي حول الدفاع عن الوطن ضد أي اعتداء خارجي وضد الإرهاب، من أجل وقف نزيف الدم السوري والوصول إلى حل سياسي يحفظ أرواح المواطنين ويضمن خروجاً آمناً من الأزمة.. ويضع هذا المؤتمر ميثاقاً وطنياً متفقاً عليه، عناصره، دستور عصري، يحفظ حقوق الجميع، وإقامة مؤسسات دستورية تحترم من الجميع، فصل حقيقي للسلطات، واستقلالية للقضاء، وإقامة دولة القانون قولاً وفعلاً، وإشراك منظمات المجتمع المدني، وكل ما يمكن أن يحقق الديمقراطية لسورية ولكل أبنائها، دون أي تمييز بسبب الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب.. وهذا ما أكده حزبنا دائماً.

العدد 1105 - 01/5/2024