سميرة عزام تستشرف مستقبل غادة السمان في إحدى الرسائل لألفة الأدلبي….وميّ زيادة تقول لجبران: أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب

يذهب المتراسلون وتبقى رسائلهم

 (المكتوب ثلثا المشاهدة)-

مثل شعبي

نظرة.. غمزة.. وقد تكون إشارة..

همسة.. لمسة.. وقد تكون دمعة..

خطاب.. جواب.. وقد تكون أمنية..

كلمة.. جملة.. وقد تكون كتاباً..

إنها (الرسالة). تلك التي قد نعلنها حيناً، ونضمرها أحياناً اقتداء بقولة: (خليها بالقلب تجرح أحسن ما تطلع وتفضح).

أنواع الرسائل

تندرج مفردة (رسالة) في لغتنا العربية ـ وربما في غيرها ـ ضمن قائمة.. بلهْ في رأس قائمة المفردات، ذات الدلالة الواسعة، والمعاني المتباينة، والمضامين المختلفة. إذ تبدأ من رسالة بمعنى مكتوب (ما تصفه عامة ريفنا بـ(ثلثي المشاهدة)).. وتمرّ بالمعادل الأكاديمي للمفردة (أطروحة جامعية).. إلى الدلالة المعاصرة لهذه المفردة في تداولنا الشفوي ـ وأحياناً الكتابي: كإبلاغ أو إنباء. إذ يقول أحدنا للآخر، أثناء حديث جارٍ: وصلت الرسالة. أي: وصلني المعنى الذي قصدتَ إليه.. وهكذا وصولاً إلى الرسالة السماوية، بمعنى (الخطاب الديني) أو كتاب الله كالقرآن والإنجيل والزبور.

ومثلما تدعى الكتب السماوية رسائل، هناك كتب دوّنت بأقلام البشر وأطلق عليها مؤلفوها اسم (رسائل) أيضاً. كـ(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، إضافة إلى رسائله إلى داعي الدعاة الفاطمي و(رسالة الشياطين)، و(رسالة التربيع والتدوير) و(رسالة الملائكة) للجاحظ، و(رسالة روح القدس في محاسبة النفس) لـ محيي الدين بن عربي.. وغيرها.. وغيرها. مما ذكرنا من أنواع الرسائل، نقارب هنا، الرسائل الشخصية، أي الخطاب أو المكتوب، المرسل من شخص إلى آخر، بخاصة منها، مراسلات الأدباء، الموضوع الذي عالجه الباحث عبد اللطيف الأرناؤوط، في كتابه (تأملات في رسائل الأدباء) الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب هذا العام 2012م.

رسائل الأدباء

رسائل الأدباء، المشمولة أكثر بعين التركيز والاهتمام، في الكتاب الآنف الذكر، هي الرسائل التي يغلب عليها طابع السرية. أقلّه ما يتحاشى الكاتب اطلاع الآخرين عليه ونشره على الملأ. من مشاعر داخلية حساسة، تنتابه أحياناً أو دائماً، تجاه أمرٍ ما.. قضية ما.. إنسانٍ ما، ولا يريد صاحبها إطلاع أحد ـ حتى الطير الطاير ـ عليها، اللهم سوى مَنْ اصطفاه عقله وقلبه ووجدانه، الشروط التي قلّما توافرت في غير المحبوب.

تمتاز الرسائل الخاصة المتبادلة فيما بين الأدباء والأديبات، بأنها:

حساسة..

هامة..

وخلافية.

الصفات المتأتية أصلاً من خصوصيتها وعنها.

حساسة: لأنها تطول السرّي المكنون والمسجون، من مفردات وجُمل ونصوص المشاعر والتعابير.

هامة: بسبب سريتها أولاً، وبتقدير الكاتب ومعزته لذاته وللمكتوب إليه تالياً.

وخلافية: لناحية احتمال نشرها لاحقاً وخطورة ذلك ونسبة السماحية به.

يقول المؤلف في مقدمة (تأملاته):

الرسائل أوراق متفرقة فيها ودائع العمر، يموت عنها الإنسان ولا تسخو نفسه أن تموت قبله (…) وإذا كان بعض الأدباء في ساعات اليأس أو الخطر، قد أقدم على حرق أعماله، فإنهم يتفاوتون أيضاً، في تعاملهم مع الرسالة. فمنهم مَنْ لا يريد أن يكشف عالمه الداخلي النفسي، ويحب أن يضع حاجزاً بينه وبين الناس، لا في رسائله فحسب، بل في أدبه أيضاً، ومنهم مَنْ يفضل أن يكون قلبه صفحة مكشوفة للناس، سواء في أدبه أو في رسائله.

بعض المزالق ضرورية للفن

مثلما عرفنا في أدبنا العربي، قديمه وحديثه، رسائل رهط من الأدباء والأديبات، كذلك عرف العالم، شرقاً وغرباً، رسائل لمشاهير الأدب والفلسفة والمجتمع، مثل رسائل الزعيم الهندي (جواهر لال نهرو لابنته أنديرا غاندي).. مراسلات الأديبة (سيمون دي بوفوار والأديب الفيلسوف جان بول سارتر).. ومراسلات الأديبين الفرنسيين (بول فاليري وبيير لويس).. ورسائل (أوتيل دور امبواية).. ورسائل (فولتير وشاتو بريان) إلخ.. إلخ.

من الرسائل المكشوف عنها الحظر، والمحرّرة من سجن الأعراف والتقاليد، رسائل القاصة سميرة عزام (1927 ـ 1967) التي بعثت بها إلى الأديبة ألفة الإدلبي، في الفترة ما بين 1960 و 1966م، وعددها عشرون رسالة.

كانت سميرة تحدس موتها العاجل وتقاسي من عقابيل ذلك الحدس وتبعاته. وهي تفصح عن جانب منه في واحدة من رسائلها للإدلبي، إذ تقول:

أشعر يا ألفة.. بأنني أبدد أيامي، وأنني سأموت دون أن أقبض إلاّ على العبث… وإزاء هذا الشعور يخطر لي أن أسأل: ولِمَ كل هذا العناء؟ الموت يضع نهاية لكل شيء، فلماذا أحمل هذا الصليب الثقيل على كتفي، وأعتقد أن عليَّ أن أفعل الكثير، وأقيم كل ما أفعله بميزان قاسٍ..؟؟.

كما تصرّح ـ على عكس عادة كثير من الأديبات ـ في رسالة أخرى عن ضعف إرادتها فتقول:

إن ضعف الإرادة عندي يتجلى في مظهرين: الحب والسيجارة.. وأنا قوية الإرادة فيما عداهما.. ولست أتبجح بهذا الكلام، فقوة الإرادة ليست فضيلة الفنان.. وبعض هذه المزالق ضرورية للفن…

هناك في رسائل المبدعة سميرة عزام غير إشراقة شعرية باهرة وغير تنبؤ لافت. وإذا كنا هنا لا نستطيع تفنيد كامل مناقبيتها، والوقوف عند جميع استشرافاتها، فلا بأس من التنويه بحدسها بموتها مبكراً، واستشرافها المستقبل الباهر لغادة السمان. ما تكلمت عنه عزام في إحدى رسائلها إلى الإدلبي حين كانت السمان لا تزال في بداية مشوارها الأدبي: (قرأت قصة بعنوان (رجل في الزقاق) لفتت نظري حقاً.. لفتاة سورية تُدعى غادة السمان، يهمني أن تطلّعي عليها، فإذا كانت هذه هي بداية الفتاة، فثقي بأنها بداية قوية حقاً…).

رسائل من ميّ زيادة وإليها

(1886-1941)

عرض الباحث عبد اللطيف أرناؤوط، في كتابه مثار تقصِّينا، لرسائل كثيرة من أديبات وأدباء، في مشرق الوطن العربي وفي مغربه: وداد سكاكيني.. طه حسين.. عبدالعزيز التويجري.. سلمى الخضراء الجيوسي.. يوسف إدريس.. حبيبة الجبالي.. لطفي الخولي.. مها غريب.. أمين الريحاني.. نازك الملائكة وميخائيل نعيمة. ولصعوبة التكلم عن كل التجارب، سنكتفي هنا، بمقاربة مراسلات الأديبة الباحثة المبدعة (ميّ زيادة)، لأنها تشتمل على أكثر الرسائل وأغناها وأخصها. لما تتمتع به صاحبتها من ذهن متفتح.. فكر متوقد.. همة عالية.. وجرأة نادرة، ازدان بها عمر قصير، تُوِّج بأنواع التهم والتخرصات، التي طالت أخصّ خصوصيات ميّ كمبدعة وكإنسانة.

لقد اجتمع لميّ زيادة، ذات الإحساس المرهف.. المشاعر الرقيقة والتهذيب الرفيع، التحرر والاختلاط مع الالتزام الطوعي بعفة الأخلاق وسمو الأهداف. واستطاعت أن تؤسس منتدىً أدبياً هو الأول من نوعه في مصر. تستقبل فيه كل ثلاثاء مختلف رواد الثقافة والإبداع والهواة والمهتمين ـ من الجنسين ـ في فترة لم تكن النساء فيها تختلط بالرجال، إضافة إلى مداومتها التراسل مع غير قليل من أصحاب القلم:

 بعث ولي الدين يكن رسالة إلى ميّ زيادة، ضمّنها رسماً له كتب تحته:

كل شيء يا ميّ عندك غالِ

غير أني وحدي لديك رخيص

 لقد استبد العشق ـ ولو من طرف واحد ـ بالأديب عباس محمود العقاد، الذي فتن بخصال ميّ وجمالها، وبعث إليها برسائل شعره وشعوره، التي قال في إحداها:

حيّاكِ يا ميّ ما غنّى وما عبقا وفاض حولك بشراً كلُّ ما شرقا

أتعلمين به ؟ بل أنت عالمة  بالود في هذه الدنيا إذا صدقا

طوبى له ألف طوبى، إن وثقت به فإنه بك دون الناس قد وثقا

فتجيبه ميّ التي ما كانت تكن له سوى التقدير والاحترام:

سيدي الأستاذ العزيز

أبكيتني بهذه القصيدة، أبكاني صوتك الحنون، فشكراً..

حبذا كلمة تطمئنني عن صحتك كيف أنت!

وتموت ميّ فيرثيها العقاد مفجوعاً:

أين ميّ؟ هل علمتم أين ميّ؟

الحديث الحلو واللحن الشجي

والجبين الحرّ والوجه السنيّ

أين ولّى كوكباه؟ أين غاب

كل هذا للتراب

آه من هذا التراب

 ورسالة من الشيخ إسماعيل صبري، الذي طالما أغرم بيفاعة ميّ، يقول في الرسالة:

أهاجرتي أطفئي

لواعج لا تنتهي

مضت في هواكِ السنو

نُ وما نلتُ ما أشتهي

فأجابته ميّ بالقول:

زمانك قبلي انتهى

ولا يرجع المنتهي

فحسبي أن أزدهي

وحسبك أن تشتهي

 لئن حملت الرسائل لميّ، مختلف ومتنوع المشاعر، من إكبار وانجذاب وإعجاب وسواه. وحمَّلت ميّ رسائلها الصادق والحميم من بعض مشاعرها ومشاكلها، فتبقى مراسلات (مي وجبران) من الأجمل والأرفع والأرق في الأدب الحافل بالرومانسية.

بعد أن استبد المرض بجبران، صارحته ميّ بحبها معترفة له أنه محبوبها الأوحد، إذ كتبت له رسالة عام 1924 م تقول فيها:

ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب.. إني أنتظر من الحب كثيراً، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر.. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟! وكيف أفرّط فيه..؟؟ لا أدري..!!

 من الرسائل التي تكشف بها ميّ، عن خالص حبها لجبران. رسالة تقول:

لابد أن تكون مسراتنا مزيداً من المحسوس وغير المحسوس، لذلك يروق لي أن ألتقي بك في الضباب وخارجاً عنه.. تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة (القاهرة) فلماذا لا تأتي.. وأنت فتى البلاد التي تناديك؟

تعال فنور القمر يثير الرمل حول أبي الهول، ويمرح في موج النيل.. تعال يا صديقي..

تعال، فالحياة قصيرة..!

في الرسائل والمرسلين

لئن كان في كلّ ما في هذا الكون من إنسٍ وجنٍّ وسماء وأرض وفضاء ونار وماء وشجر ونبات وحجر وأشياء.. وأشياء، ولكل منها رسالة، فلعل الإنسان هو المَعْنيّ والمُعْنى الأول، بتلك الرسائل، والذي له أيضاً رسائله، الموجهة للكون الذي يسبح فيه بعامة، وللناس الذين يشاركونه هذا الوجود بخاصة.

أمّا أن يذهب المتراسلون جميعاً، وتبقى رسائل بعضهم حيّة فوق أسمائهم ـ لتذكر بهم ـ كشاهدة على قبر، فإن في ذلك لحكمة!

العدد 1105 - 01/5/2024