تكلم كي أراك

 لعل الحقيقة الأجمل تبرز قيمة مفردة ومتميزة في أم لغات الدنيا، لغتنا العربية، التي تحمل من الصفات والسمات مالا تحمله لغة أخرى من لغات الأمم والشعوب المبثوثة فوق خريطة فلكنا الكوني الشاسع والرحيب بلا نهاية.

لغة طيّعة تماماً بشفافيتها ورهافتها، كما هي أجنحة الفراشات التي تلوّن حقول الله الرحبة بما يمتّع عين الناظر بألوانها ورفرفاتها الآسرة، هي لغة مركبة قراءة وسماعاً، فهي وحدها تتصف بفرادة خاصيتها دون اللغات الأخرى وتبث في مبدعها ما يؤهلها أن تكون خيالاً ووجداناً وحساً وذائقة مبدع الكلمة، الأرقّ والأشفّ في مغناه الأحلى على وتري: الإلهام المقروء والصوت المقارب للهمس الأخاذ.. الآسر!!

قد يتقن مبدع كتابة أرقّ الكلام وأبدعه، يأسر به قارئه، ولا يتقن الإلقاء، فتغيب الجماليات كلها في صوت لا يجيد المغنى، ولا يعزف على وتر يذيب سامعيه بصدى مغناه، لذا يقال: الإلقاء نصف القصيدة، ولعل (تكلم كي أراك) تكشف عن عمق مضمون المتكلم: جوهراً وقيمة أو سطحية جوهره وضآلته!

وما يفيض من مضمون فارغ القيمة والمحتوى. ولعلنا نحن، من بين أهل الأرض جميعهم بواسع الأرض وتكاثر أممها!! وحدنا من يملك أنواعاً عديدة من الكلام.. البعض يشاركنا في بعضها، وبعضها يخصنا وحدنا دون مشاركة ولا مقاربة ولا مجاورة من قريب أو بعيد!

كثيراً ما نملك لغة عيون خاصة بنا، لا يملك ندّها ومثيلها الآخرون، وما نمتلك فرادته نردفه فوراً بكلام يذهب مثلاً الناس، فموضوع العيون أردفناه بندّه الأرهف منه: (العيون مغرفة الكلام)، لذا فهذا ملكنا وخاصيتنا الخالدة!

وهناك لغة القلوب التي تشفّ لدرجة الولهان، فلا يتقن الكشف عن خفاياها أو مضامينها الغائبة البعيدة إلا عشاقها الموجعون والمولعون حد الصبابة القاتلة، ولا يجيد التعبير عنها وحياكتها قصائد ومغنى إلا الشعراء المبدعون الحقيقيون. وهناك لغة الصمت التي تغلف صاحبها بالغموض والمخفي لدرجة المستحيل أولئك هم الانطوائيون والغيبيون، وكذلك من اعتزل الحياة بصوفية عالية الغياب!

قد يعجبنا شكل ما بشخصية فائقة العذوبة في صحتها، فإذا ما تكلم صاحبها ولم يفلح وددنا لو ظل صامتاً إلى الأبد، والعكس صحيح تماماً، فلعل رجلاً شعبياً وقوراً يذهب بنا حديثه وحكاياته إلى درجة الذوبان والوله بما يجيد ويبدع من كلام، وآخر يملك عشرات الشهادات والاختصاصات ولا يجيد لعبة اللغة.. بها يملك عقول السمّيعة والحضور. إذاً فحيناً (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)، وحيناً آخر يرقى الكلام بسامعيه وقارئيه إلى ملكوته الأعلى. بمعناه الخالد في الشعر.. في القصيدة.. في المغنى.. في الموسيقا.. في الإزميل الذي يصوغ منحوتته الخالدة، التي تتكلم بجوارحها الصماء (الحية) حتى تكاد تنطق!

تكلم كي أراك.. تلك فلسفة الطريق إلى المعرفة، والتعارف، منذ سقراط وأبعد، أراك بصوتك، وأراك بوجدانك، وأراك بعينيك، وأراك بقصيدتك، وأراك بمغناك، وأراك أحياناً بقلبي الذي ينبض فيك، ولعلي أراك بلغة الطيور وصخب الأنهار، ورفة غصون الأشجار، وهسهسات النسيم والليل، وسمر المواقد لدى الحالمين فوق سياجات العودة.. المهم أن أراك، وأسمعك، بتلويحة الشال في يديك!

العدد 1105 - 01/5/2024