من حنظلة إلى أبي السلام… قراءة في العرض المسرحي «تغريدة أبي السلام»

 لابدَّ لذاتٍ على مفترق طرق لا تحصى ولا يُفضي أحدها إلى استقرارٍ حقيقي، لابدَّ لها من أن تشكل حالة إنسانية يجب تسليط الضوء عليها، وهذا ما قام به الأديب والمخرج داود أبو شقرة في عرض المونودراما الذي حمل اسم (تغريدة أبو السلام) الذي أقيم على خشبة مسرح القباني بداية، ثم انتقل إلى عددٍ من المحافظات واختتم عروضه في اللاذقية منذ أسبوعين.

أبو السلام، فلسطيني مُقعد في السبعين من العمر تركه أولاده الثلاثة عشر مهاجرين إلى شتى أصقاع الأرض، ثم هاتفوه تباعاً يدعونه إلى السفر إليهم، لكن هاتف الحنين إلى أرض الوطن كان يصمُّهُ عن رجائهم، فهو يريد (لمّ شمل ) مع حجارة داره وأشجار أرضهِ، فلن يجمعهُ شتاتٌ جديدٌ بعيدٌ إلا بالمزيد من الأسى والحنين.. هاهو ذا قابعٌ هناك محاطاً بصناديق المعونات التي تحمل شعار الأمم المتحدة، وحيداً مُكبلاً بكل شيء، بكل أشكال الحصار والتغييب، ولكنه بقي على قيد الحياة ليفلَّ به كل القيود.. حياة مقاومة وذاتاً يقظة رغم بساطتها، وروحاً دافئة ذات عباراتٍ صارخة الحروف بعيدة الصدى.. محاصراً بكل شيءٍ يخنق النفس، لكنه لا يرضى إلا أن يأخذ أنفاسهُ كاملة ويقول كلمتهُ حتى النهاية. وقد أبدع الممثل القدير عبد الرحمن أبو القاسم في أداء شخصية أبو السلام، في التوفيق في لغة الجسد بين المنعكسات الحركية للآلام النفسية رغم المحدودية النسبية للحركة التي يفرضها وضع الشخصية الصحي (الإعاقة /مُقعد)، ولم يقم الأستاذ عبد الرحمن بتركيب بعض اللازمات الحركية والكلامية، وإنما عمد إلى إعادة البرمجة اللغوية العصبية لجسده كي يتمكن من أداء تلك الشخصية، فأتى أداؤه الفني بسوية عالية. ولم يخلُ المونولوج من نقد أبو السلام لذاته وليس فقط للتخاذل العربي إزاء القضية الفلسطينية وإزاء فلسطينيي الشتات، فقد لام نفسه على كثرة الإنجاب رغم فقره، ما تسبب في عدم تحصيل بعض أولاده لشهادات علمية، واتجاههم إلى العمل باعة سجائر مُهربة.

ولعل الصناديق الكثيرة التي تحمل شعار الأمم المتحدة والطريقة التي وضعت فيها على الخشبة جعلت أبو السلام يبدو للمتلقي وكأنه في جوف صندوق تواطأت أممٌ على وضعهِ فيه وختمها ظاهرٌ عليه. وجاءت السينوغرافيا المتقنة في معظم العرض متكئة على إضاءة من درجات اللون الأزرق، إضافة إلى السواد (الظلام) مما استحضر في ذهن المتلقي: البحر والموت.

عادة ما يُحبذ الكتاب الشخصيات المركبة، بمعنى المعقدة التكوين النفسي، عندما يختارون الكتابة لعروض الممثل الواحد.. أما أن يختار كاتبٌ شخصية بسيطة، بمعنى من طبقة اجتماعية بسيطة ويدعو جمهور المسرح الذي هو عادة من شرائح اجتماعية أعلى ثقافة ، وأن ينجح الكاتب والممثل في جعل الجمهور يصغي ويتابع على امتداد ساعةٍ من الزمن تلك الشخصية البسيطة.. أرى في ذلك دليلاً على أن الإنسان الفلسطيني قد سُلب منذُ زمنٍ بساطة العيش بحكم ما تعرّض لهُ من معاناة. فكل شخصية فلسطينية مهما كانت طبقتها الاجتماعية وسويتها الثقافية وفئتها العمرية هي شخصية مركبة، بمعنى أنها مضطرة أن تكون ذاتاً يقظة لأن وجودها مستهدف.. انطلاقاً من حنظلة وصولاً إلى أبو السلام، فإن كان حنظلة أدار للعالم ظهرهُ، فاليوم العالم يديرُ لأبو السلام ظهرهُ بعد أن تشعبت المؤامرات الدولية، لتطول الفلسطيني بالقتل والإرهاب حتى في شتاته. وجاء العرض المسرحي (تغريدة أبو السلام) ليؤكد أن الهوية الوطنية الفلسطينية هي أكثر هوية وطنية تم امتحانها ونجحت في الاستمرار والبقاء. ولعلها المفارقة الذكية التي تُحسب لكاتب العمل داود أبو شقرة أنه رغم الصراع الذي عكسه تتابع المونولوج وتصاعده، وعندما وصل إلى ذروته كاد يعبّر عن حالة من (انفصام الهوية- وهو مرض نفسي) والاهتزاز القوي للهوية الذاتية لشخصية أبو السلام تحت ضغط الوقائع الصادمة المُعاشة، إلا أن الهوية الوطنية لأبو السلام واضحة المعالم وشكلت جوهر مسألة أكون أو لا أكون.

ولعل السوري والفلسطيني يرى كل منهما نفسه على السواء في شخصية أبو السلام. ولعل هذا العرض المسرحي جاء في التوقيت المناسب (ذروة مشكلة الهجرة والحصار للإنسان الفلسطيني حتى بين حدود دول أوربية ) ليكون نبضاً للحدث كأي عمل فني أصيل.

وقد لقي العرض المسرحي (تغريدة أبي السلام) أصداء حسنة في الأوساط الثقافية والشعبية العربية، فقد اختارت الهيئة العربية للمسرح ثماني مسرحيات بغية ترجمتها إلى اللغة الانكليزية لصالح الهيئة الدولية للمسرح، نموذجاً عن المسرح العربي، وكان ترتيب (تغريدة أبي سلام) الثالث.

من المآخذ على هذا العرض المسرحي ورود بعض العبارات تندرج في إطار الإبلاغ، عوضاً عن تقديمها إلى المشاهد ب(بلاغة)، لكن العمل بالمجمل كان بليغاً والفنُ بلاغة.

********

بطاقة العمل…

تأليف وإخراج: داود أبو شقرة

تمثيل: عبد الرحمن أبو القاسم

موسيقا: حسين نازك

سينوغرافيا: محمود خليلي

تصميم إضاءة: بسام حميدي

مونتاج المادة الفلمية:

ماهر شنان

فوتوغراف: محمد خليلي

التسجل والمكساج: حسين حناوي

الصوت الإذاعي: هدباء العلي

المادة الإعلانية:

محمود خليلي، وعلي خليلي

مدير المنصة: سامر الحسن

تنفيذ الإضاءة: محمد إدلبي

العدد 1105 - 01/5/2024