مكتبة «إيبلا» من أقدم مكتبات العالم

 يزعم أهل الشمال السوري أن بلداتهم الصغيرة المنسية المتناثرة على الهضاب الكلسية -التي كان زيت زيتونها يُضيء شوارع روما ذات يوم- هي سرّة بلاد الشام، والوارثة لملاحة الحضارات القديمة في الشرق العربي، على الرغم من إهمال ياقوت الحموي ذكر معظمها في معجمه، لأنها لم تكن في أيامه إلا قرى زراعية صغيرة، أومدناً أثرية مهجورة، أو رسوماً دارسة، في حين ذكر تلك البلدات الكبيرة العامرة بالحياة ، منها معرة النعمان بلدة فيلسوف المعرة (أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي) المكنى بأبي العلاء المعري، ونحن نفتخر بأن تربتنا تحتضن رفات ذلك الإنسان الجليل. وعلى بُعد بضعة كيلو مترات إلى الشرق من معرة النعمان يرقد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في دير شرقي، والناس تظن قبره في دمشق. هذه الملاحة الحضارية ازدادت حُسناً ورونقاً وألقاً مع اكتشاف وثائق القصر الملكي وسجلاته في مكتبة (إيبلا) في (تل مرديخ) عام 1975 التي ضمت المجموعة الأقدم والأكمل من الوثائق الرسمية لدولة ظهرت في شمال بلاد الرافدين. محفوظات القصر الملكي من رقم الفخار الطينية في (إيبلا) أضافت معلومات جديدة كل الجدة إلى تاريخ سورية والمشرق القديم في النصف الثاني من الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح. ويمكننا القول هنا بثقة تامة إن اكتشاف مكتبة (إيبلا) يضعنا وجهاً لوجه أمام أعظم الاكتشافات الأثرية في القرن الماضي.

(2)

حدث ذلك في أحد أيام تشرين الأول عام 1975 فقد كان أحد العمال يعالج تراباً هشاً من بقايا أرضية غرفة في الجناح الشمالي الغربي من القصر الملكي، شاهد فتحة صغيرة نعمل على توسيعها فظهرت حجرة كبيرة تحت أقدامه، وعندما قام المنقّبون بتوسيع تلك الفتحة وجدوا أنفسهم في حجرة واسعة حيث ظهر أمام أعينهم آلاف الرقم الفخارية الصحيحة والمكسورة وقد تكدست بعضها فوق بعض. و صرَّحت غابرييلا ماتييه زوجة باولو ماتييه مكتشف مملكة (إيبلا) في ذلك اليوم قائلة: (عندما رأينا الحجرة ووقعت عيوننا على كومة الألواح تملكنا شعور هستيري، إنها تشبه تماماً المكتبة التي أغلقها أمينها البارحة في الساعة الخامسة).

(3)

يقول باولو ماتييه رئيس البعثة الإيطالية العاملة في تل مرديخ ومكتشف مكتبة (إيبلا): (تتألف المكتبة الملكية من عدد ضخم من رقم الفخار الطينية بلغت نحو سبعة عشر ألف وخمسمئة رقم وكسرة طينية مكتوبة، تُشكل بمجموعها الأرشيف الملكي في (إيبلا)، تتألف من نصوص إدارية واقتصادية وقضائية ودينية وأدبية ومدرسية وقوائم معجمية ورسائل ومعاهدات. وهي رقم كُتبت بالخط المسماري، ورُتّبت على رفوف خشبية. تختلف الرقم الفخارية من حيث الحجم فمعظمها صغير لا يتجاوز أبعاده بضعة سنتمترات منها النصوص الاقتصادية وبعضها كبير الحجم تتراوح أبعاده ما بين خمسة وثلاثين سنتمتراً وأربعين سنتمتراً وله شكل مربع أو مستطيل منها المعاهدات والقوائم المعجمية. وتُظهر لنا حجرة مكتبة الأرشيف الملكي ترتيباً مكتبياً عملياً للرقم الفخارية التي كانت موجودة فيها. إذ رُتبت الرقم الفخارية على رفوف خشبية -يُعتقد أنها ثلاثة- مثبتة في الجدران ولها دعائم أرضية إذ وضعت الصغيرة فوق والكبيرة تحت و يبلغ عمق الرف في حدود ثمانين سنتمتراً وتفصله عن الرف الذي يليه مسافة في حدود خمسين سنتمتراً. وقد تحوَّلت تلك الرفوف والدعائم الخشبية إلى رماد نتيجة النيران التي أصابت القصر الملكي وأدّت إلى شوي الرقم الطينية وأكسبتها صلابة ساعدتها على تحدي عاديات الزمان).

(4)

عُثر في حجرة مجاورة للمكتبة على رقم طينية وعلى جرة مملوءة بالطين وبعض أدوات الكتابة -أقلام من العظم- مما يُثبت أن هذه الحجرة كانت تُستخدم لكتابة الرقم الطينية. وقد أكد رئيس البعثة الإيطالية باولو ماتييه أن المكتبة هُدمتْ مع القصر الملكي وقد بدا تأثير الحريق واضحاً على الخشب المتفحم وعلى (الطوب) المُجفف تحت أشعة الشمس والذي بُنيت به جدران المكتبة والقصر الملكي. وقد رجَّح أن هذا الحريق جرى بفعل الملك (نارام -سن) حفيد مؤسس الدولة الأكادية (شارو- كين) في عام (2250 ) قبل الميلاد، والذي يفخر في كتاباته: (إني أنا الذي فتح إيبلا ولم يكن بإمكان أحد قبلي أن يقوم بهذا العمل).

(5)

 أثار اكتشاف مكتبة (إيبلا) ضجة علمية كبرى بين علماء الآثار ومؤرخي الشرق القديم، فقد كانت النظرة السابقة تزعم أن سورية -خاصة في الشمال- كانت خلال تاريخها القديم منطقة نزاع دائم بين الممالك والإمبراطوريات الكبرى التي قامت على شواطئ دجلة والفرات، فجاء اكتشاف سجلات القصر الملكي في مكتبة (إيبلا) ليؤكد أمرين: الأول أن الحضارة يمكن أن تنشأ وتتطور بعيدة عن الأنهار الكبرى فدولة (إيبلا) كانت منطقة زراعية كبيرة اعتمدت -أساساً- على مياه الأمطار والمحاصيل البعلية. والثاني أن سورية كانت في الألف الثالث قبل الميلاد دولة قوية ومركزاً حضارياً مهماً كما هو حال دول المدن السومرية في وادي الرافدين: أور، أريدو، لارسا، أوروك، لكش، أومّا، أيسن، أدب، نيبور، كيش، أشنونا، بابل، ماري. هذه المدن العامرة بالحضارة كانت أرقى الأماكن في العالم التي نشأت على حافة أحواض القصب على ضفاف دجلة والفرات، وفيها ولدت الكتابة في حدود الألف الرابع قبل الميلاد، لذلك فإن اكتشاف مكتبة مملكة (إيبلا) في إدلب يُعد أحد أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين.

العدد 1105 - 01/5/2024