مرور مئة عام على رسائل حسين ــ مكماهون… واتفاقية سايكس ــ بيكو

في العاشر من آذار من هذا العام، يكون الزمن قد طوى مئة عام على مجموعة الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين بن علي، أمير مكة، والسير آرثر هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، التي كانت غايتها بناء الدولة العربية، على أن تساعد بريطانيا العرب على قيامها، بعد إنهاء الدولة العثمانية وثورتهم عليها، وجاءت هذه الرسائل بعد عودة نجله فيصل إلى مكة يحمل ميثاق دمشق، الذي تتعهد فيه القوى العربية في بلاد الشام بمساعدة الشريف حسين على قيام الثورة ضد العثمانيين ومطالبة بريطانيا بتنفيذ هذا الميثاق.

وقد بدأ الشريف حسين رسالته الأولى بتاريخ 14 تموز 1915 مبيناً حدود الدولة العربية بخريطة مرفقة، مطالباً بريطانيا بالاعتراف باستقلال البلاد العربية من أضنة شمالاً إلى خليج البصرة والمحيط الهندي جنوباً، والموافقة على أن يكون الشريف حسين خليفة عليها، تلقف مكماهون هذا الطلب وأجاب عليه برسالة وافق فيها أن يكون الشريف حسين خليفة، وأرجأ النظر بتحديد الحدود باعتبارها سابقة لأوانها، إلا أن هذا الجواب لم يرضِ الشريف حسين، فردّ عليه برسالة أعرب فيها عن دهشته للتهرب من مسألة الموافقة على الحدود باعتبارها أساسية، وأشار إلى مراوغة بريطانيا في هذا الموضوع حرصاً على مصالح فرنسا في بلاد الشام، فردّ مكماهون برسالة جوابية تتضمن التعهد بقيام الدولة العربية وحمايتها مستثنياً من هذا التعهد أجزاء من هذه الدولة: سورية وآسيا الصغرى،

واستناداً إلى هذا التعهد أجاب الشريف حسين برسالة أكد فيها رغبته في تسهيل الاتفاق معتمداً على نيات بريطانيا العظمى ومواقفها الحميدة، ووافق على التنازل عن إصراره على ضم مرسين وأضنة إلى الدولة إلا أنه تمسك بولايتي حلب وبيروت، غير أن مكماهون بعث إليه برسالة أصر فيها على استثناء حلب وبيروت من الدولة العربية، وحثّ الشريف على إعلان الثورة ضد العثمانيين، فعاد حسين إلى إرسال رسالة أخرى إلى مكماهون  أبدى فيها استعداده للتنازل عن منطقة غرب دمشق وحمص وحلب، على أن يكون من حق العرب المطالبة بها بعد انتهاء الحرب، تجنباً لإلحاق الضرر بمصالح بريطانيا وحليفاتها، وأجاب مكماهون برسالته الأخيرة في 10 آذار 1916 أعلن فيها موافقة بريطانيا على جميع المطالب، وهكذا انتهت الرسائل العشر المتبادلة إلى إلحاق الضرر بمستقبل المنطقة العربية، بعد أن قدم الشريف حسين في هذه الرسائل التنازلات التي اعتمد فيها على نيات بريطانيا ومواقفها الحميدة، وتجنبه إلحاق الضرر بها وبمصالح حلفائها، وإخراج سورية والعراق من الدولة العربية، وإخراج منطقة الخليج وعدن ونجد وعسير، ولم يحصل من مكماهون إلا على وعد باستقلال الحجاز بسبب عدم رغبة بريطانيا باحتلالها، تجنباً للحساسية التي تتمتع بها الأماكن المقدسة، وهي المنطقة الوحيدة التي سلمت من  الاستعمار الأوربي، ومن كل المصطلحات التي حملت معنى الحماية والوصاية الانتداب والمساعدة والصداقة، ولكن هذه الإمارة لم تدم للشريف حسين طويلاً حتى سيطر عليها آل سعود بعد مدة وجيزة، وبمساعدة بريطانيا نفسها، ويكون الشريف قد خرج من هذه المفاوضات بخفّي حنين.

وتحت مظلة رسائل حسين مكماهون، كانت تجري بين بريطانيا وفرنسا مباحثات بين مندوبي البلدين: السير مارك سايكس، النائب في مجلس العموم البريطاني، والخبير في شؤون الشرق الأدنى السكرتير في السفارة الفرنسية في لندن المسيو جورج بيكو، فتوصلا إلى اتفاق بتاريخ 16 أيار 1916 عرف تاريخياً باتفاقية سايكس- بيكو، قضت هذه الاتفاقية بتقسيم المشرق العربي إلى مناطق حمراء وزرقاء وسمراء، ومناطق داخلية بين بريطانية وفرنسا، وتركت المنطقة السمراء (فلسطين) تحت الانتداب البريطاني، وتضمنت الاتفاقية بنوداً تمهد لتسليم لواء إسكندرون لتركيا، وإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وبقيت هذه الاتفاقية سرية لا يدري بها العرب حتى نشرتها الحكومة السوفيتية بعد الثورة البلشفية عام 1917.

من خلال رسائل حسين مكماهون واتفاقية سايكس بيكو، ولاحقاً وعد بلفور 1917 وغفلة العرب، وثقتهم العمياء بالغرب، رسمت بريطانيا مستقبل المنطقة على مدى العقود الماضية، ومازالت المنطقة تجني المآسي التي خلفتها هذه السياسة المعتمدة على المراوغة والدهاء، والنفس الطويل، ووفق خطوات ثابتة ومرحلية والوصول بالمنطقة إلى حالة الانقسام والتشرذم والفرقة، وحتى العداوة، وإلى ما وصلت إليه الآن.

ومع الأسف، ودون أن ينتبه ساسة المنطقة، فإنها مازالت في دائرة الاستهداف بخطط ومشاريع جديدة، ولكن على الطريقة الأمريكية، ونصائح بريطانية، بفوضى خلاقة، وشرق أوسط جديد، ومعارضة مسلحة معتدلة، وسايكس بيكو جديدة، لأن الولايات المتحدة لا تهتم بإصلاح العالم العربي تحت مفاهيم التغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان، إنما تهتم بمصالحها، وتنفيذ الخرائط الجديدة التي رسمت للمنطقة تقوم على تقسيمها من جديد على أسس عرقية وطائفية ومذهبية وإثنية، كل هذا يجري في ظل حكومات جرى صياغتها خلال المئة عام الماضية لتنفيذ السياسة البريطانية، وتوريث هذه الأنظمة للولايات المتحدة، في ظل الحكومات غير القادرة على رفض هذه المشاريع، والاستسلام لتنفيذها، إلا أن شعوب المنطقة الرافضة لهذه السياسات وقواها الحية هي المعوّل عليها في إعادة رسم مستقبلها بمشروع نهضوي، بديلاً للارتهان المأساوي للغرب وأدواته، مشروع يعتمد العلم والمعرفة يتخطى المصالح الضيقة، ويرسم المستقبل للأجيال القادمة.

العدد 1105 - 01/5/2024