نعم هناك «جنة»… نعم هناك «نار»!

 يجتهد الصديق صريح البني مشكوراً في طرح الكثير من الأفكار الهامة بحثاً عن أجوبة لمسائل فكرية ملحة. يفهم من تلك الطروح الهامة إيجاد رؤى متجددة وتفسيرات تتناسب وروح العصر لبعض مقولات الماركسية. أزعم أن الصديق صريح يفعل ذلك من منظار كسر حالة الجمود والبلبلة التي يعاني منها اليسار. إن تراجع الحركة اليسارية، إضافة إلى عوامل أخرى طبعاً، سهّل تنامي نزعات التعصب الديني/ الطائفي الفاشي، واستشراء الفساد والعنف. وهو ما تشهده العراق وسورية وغيرهما. الأمر الذي يؤدي إلى دمار للحجر والبشر، والسعي لتفتيت كيانات الدول الوطنية وتشظيها إلى كيانات طائفية وعرقية.

من جهة ثانية، تثير كتابات الأستاذ صريح العديد من التساؤلات حول ما ترمي إليه في نهاية المطاف. هل المطلوب تجديد النظرية الماركسية؟ أم نسفها؟ أم إيجاد نظرية جديدة خليط بين إيديولوجيات عدة؟ أم أن المقصود اعادة فهم الماركسية وفق التطورات الجارية دون التخلي عنها؟ هل المقصود محاولة التوفيق بين الماركسية والليبرالية الجديدة؟ أم ماذا؟؟ الجواب متروك للعزيز صريح والمهتمين.

أود المساهمة ببعض الأفكار والتساؤلات التي برزت لدي من خلال متابعتي لكتابات الصديق صريح، وبشكل خاص تلك المعنونة (الإيديولوجيا عندما تتحول إلى مذهب) المنشورة في صحيفة (النور)- العدد 709.

 ما سأكتبه ليس رداً، وإنما إبداء وجهة نظر ضمن حوار مطلوب بين قوى اليسار والعلمانية، من أجل تشكيل وعي مجتمعي جمعي، لمواجهة المد الفاشي الديني المدمر، ومن أجل غد ديموقراطي، مدني، علماني وعادل.

الليبرالية الاقتصادية الجديدة بين المركز والأطراف

يتراءى لي أن ثمة انبهاراً ببعض جوانب الليبرالية الاقتصادية الجديدة. تعاظم التبشير بالليبرالية الجديدة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وبروز مفاهيم (نهاية التاريخ) لفوكوياما و(نهاية عصر الإيديولوجيات) و… مترافقة مع هجوم فكري/إعلامي واسع على الماركسية عموماً. هناك محاولات لإيجاد نظريات (هجينة) تحت شعارات براقة: (الليبرالية الجديدة)، مجتمع لا طبقي، وضع الديموقراطية في مواجهة الماركسية، وغير ذلك. تجري هذه المحاولات عبر مختلف الأشكال: الضغط الاقتصادي عبر صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو عبر خلق نزاعات مسلحة وإثارة فوضى (خلاقة). تقود هذه المحاولات آلة عسكرية وإعلامية ضخمة، مستفيدة من توق الشعوب إلى الخلاص من الاستبداد والفقر. الهدف الأساسي برأيي لهذه المحاولات هو تجريد من لا يملك سوى قوة عمله، من السلاح الإيديولوجي/ النظري (اقرأ الماركسية هنا) بحيث يسهل زيادة أرباح الاحتكارات. وهو ما نشاهده في البلدان التي تسير في نهج الليبرالية الجديدة.

يجري أحياناً إيراد أمثلة عن نجاح الليبرالية الاقتصادية الجديدة في عدد من البلدان الأوربية حصراً لتأكيد صحّتها وتعميمها على مختلف بلدان العالم. لكن هذه نظرة أحادية الجانب:

أولاً – حتى البلدان الأوربية التي تأخذ هذا النهج تعاني من أزمات اقتصادية بنيوية : بطالة، انقضاض على المكتسبات التي تحققت بفعل نضالات شعوبها، واتساع الجريمة، وغيرها.

ثانياً – لماذا تُستبعد بلدان الأطراف في آسيا، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تسير أيضاً على نهج السياسات الليبرالية الجديدة، وتخضع لإملاءات صندوق النقد الدولي، لكنها تعاني من فقر مدقع، بطالة، جريمة، تخلّف اجتماعي، لماذا تستبعد لدى الحديث عن آثار هذه السياسات؟؟

لقد تحققت إنجازات المركز ليس فقط بفضل نضالات شعوبها التي لا تُنكر، وإنما أيضاً بسبب استعمار الأطراف ونهبها على مدى عقود (إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، الحرب العالمية الأولى، والثانية، شروط البنك الدولي… إلخ).

نعم، سيستمر دوران كوكبنا وسيستمر الصراع بين نظامين اجتماعيين، مادام فضل القيمة يفعل فعله وعدالة توزيع الثروة لم تتحقق.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن تحقيق عدالة اجتماعية متطورة دون أن تحوز الدولة على جميع وسائل الإنتاج؟ ودون أن يقودها بالضرورة حزب الطبقة العاملة؟ مقولات تحتاج إلى الكثير من التمعّن. لا أدري ما هي البلدان التي حققت عدالة اجتماعية دون أساس نظري، ودون الاستحواذ على وسائل الإنتاج الأساسية، أكرر: الأساسية، وليس كلها طبعاً؟؟ من الخطأ كما أعتقد أخذ نظرية الليبرالية الجديدة ككل والتركيز على بعض إنجازاتها في دول المركز فقط دون الأطراف.

الاجتهاد مطلوب

إن ما قلناه لا يعني أبداً الوقوع في الجمود العقائدي أو مسلمات بديهية من شاكلة: الثورة قادمة لامحالة، وغيرها من مقولات. المطلوب الاجتهاد من أجل تفسير أفضل للنظرية يتلاءم والتطورات، واستبعاد بعض المقولات التي استنفدت حيويتها. لكن الاجتهاد المطلوب لا يعني التخلي عن أسس النظرية. مثلاً ماذا يبقى من الماركسية إذا جرّدناها من قوانين فضل القيمة أو الصراع الطبقي؟؟ إذا فعلنا ذلك تتحول الماركسية إلى دردشة صالونات، وفي أحسن الأحوال إلى مذهب وتعاليم أخلاقية تشبه الأديان.

إن الإيحاء بأن هناك (منظومة شيطانية) واحدة يجب التعامل معها، هو مقولة خطيرة، كما أعتقد. تجري محاولات عديدة (دول البريكس والتكتلات الآسيوية وما شابهها) لإيجاد بدائل لهذه المنظومة الشيطانية. ومثلما لا يجوز أن نرمي أسباب كل ما يجري في بلداننا من عنف ودمار على الخارج، علينا أيضاً أن لا نبرّئ الخارج من دوره التدميري. وتلك لعمري معادلة يجب رسم حدودها بتأنٍّ، كي لا نقع في المكروه.

حول النموذج السويدي

جرى ويجري الحديث كثيراً عن النموذج السويدي كمثال متطور للعدالة الاجتماعية. سأحاول الاجتهاد في توضيح هذا النموذج، راجياً أن أوفّق، دون الادعاء بصوابيته تماماً.

فعلاً حققت السويد بعد الحرب العالمية الثانية إنجازات كبيرة ومهمة لشعبها في مجالات العدالة الاجتماعية (الضمان الصحي، الاجتماعي، التعليم، حقوق المرأة والطفل، الديموقراطية) وصار يطلق عليه (مجتمع الرفاهية الزائدة). إنجازات لا يمكن إنكارها أبداً. تحققت هذه الإنجازات بفضل نضال قوى اليسار (شيوعيين واشتراكيين ديموقراطيين) المستند على النظرية الماركسية وتطبيقها وفق ظرف بلده.

كانت السويد في بدايات القرن العشرين بلداً فقيراً جداً يعاني من سيطرة الكنيسة والإقطاع، ومتخلفاً إلى درجة اضطرت نحو مليون من سكانه للهجرة إلى الولايات المتحدة بحثاً عن لقمة عيش. هذا الوضع كان أساساً في انتشار الأفكار الاشتراكية ونشاط الشيوعيين والاشتراكيين الديموقراطيين وتحولهما إلى القوة السياسية الأكبر في البلاد. لكن ثمة عوامل أخرى هامة أيضاً ساهمت في تحقيق هذا النموذج.

لم تدخل السويد الحرب العالمية الثانية، بل دعمت الآلة العسكرية النازية عبر مدّها بالحديد والفحم الضروريين لصناعتها الحربية، كما سهّلت اجتياز القوات الهتلرية لأراضيها واحتلال النرويج. من جهة أخرى أصبحت السويد نقطة جذب للرساميل والصناعات الأوربية، بسبب الدمار الذي لحق بالبلدان الأوربية. بعد انتهاء الحرب بدأت عجلة التطور في الصعود وترافق ذلك مع نضال السويديين ويسارييهم لبناء مجتمع أكثر عدالة، كما فتحت أبواب الهجرة للأيدي العاملة من إيطاليا ويوغسلافيا واليونان، ثم من منطقة الشرق الأوسط، وحدثت قفزات سريعة.

كما استفادت السويد خلال الحرب الباردة وانقسام أوربا إلى معسكرين متناقضين. كان من مصلحة كل معسكر إبقاء السويد خارج التجاذبات المباشرة، أو ضمّها إليه، وطبعاً لكل معسكر غاياته من وراء ذلك. كان الاتحاد السوفيتي يحاول إبعاد السويد عن المعسكر الآخر لأنها تشكل الخاصرة الشمالية لحدوده، لذلك أقام علاقات طيبة معها. والمعسكر الغربي كان يدعم السويد كي يقدمها كنموذج آخر للاشتراكية غير النموذج السوفيتي، ولم يحاول جرّها لجانبه علانية. مجمل هذه الأوضاع ساهم في خلق نموذج لمجتمع أكثر عدالة، مجتمع الرفاهية الزائدة.

استمر ازدهار السويد الاجتماعي- الاقتصادي، حتى انهيار المنظومة الاشتراكية وسيطرة القطب الواحد في بداية تسعينات القرن الماضي. عندئذ لم يعد من مصلحة الولايات المتحدة ومعسكرها استمرار نظام أكثر ديموقراطية وعدالة من نظامها يصبح نموذجاً للشعوب الأخرى، فجرى العمل على ضربه- أخذه من الداخل عبر الانقضاض على المكتسبات التي تحققت، والسيطرة التدريجية لمفاهيم الاستهلاك والسوق الحر وما إلى ذلك من مفاهيم كانت منذ فترة غير بعيدة غريبة عن المجتمع السويدي.

ترافق ذلك مع (أمركة) وسائل الإعلام، وجرّ السويد إلى مواقف في السياسة الخارجية لا تنسجم وتاريخها في مساندة البلدان التي تناضل ضد الاستعمار ومن أجل العدالة (كان ألوف بالمة يسير في مقدمة التظاهرات ضد الأمريكان خلال الحرب الفيتنامية). جاء انضمام السويد إلى الاتحاد الأوربي ليساهم أكثر في ضرب النموذج السويدي للعدالة الاجتماعية. بدأت تتزايد نسب البطالة، والفساد وتعاظم الجريمة…  وبدأت الحكومات المتعاقبة تنتقص أكثر فأكثر من المكتسبات التي تحققت، وبدأت قوانين الرأسمال تفعل فعلها وازدادت الهوة الطبقية.

خلاصة القول إن النموذج السويد المتطور بفضل نضالات اليسار واعتماده على الماركسية والظروف الدولية المحيطة… بدأ يترنح عندما بدأ ينخرط في سياسة السوق والرأسمالية أو الليبرالية الجديدة، وصار يعاني، مثله مثل بقية البلدان التي تسير في هذا النهج، من معضلات اقتصادية واجتماعية وتآكل منجزاته.

أخيراً، أنا أخالف البابا فرنسيس وأقول: (نعم، هناك نار…نعم، هناك جنة) ومن لم يصدق فليسأل أطفال بلدان آسيا، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية الذين يموتون بسبب نقطة ماء أو دواء، وبسبب الجوع.. وبلا مدارس، ويعانون من ويلات الحروب والنهب الداخلي والخارجي…وألا يكتفي بالنظر إلى رياض الأطفال في البلدان الإسكندنافية!

العدد 1107 - 22/5/2024