العلاقة بين الفكر والواقع.. ودورها في التغيير السياسي والاجتماعي

هل يمكن للأفكار أن تغيّر الواقع؟!

 هذا السؤال كان محطّ نقاش واسع بين المفكرين طوال عقود كثيرة، وتبرز  أهميته وضرورة الإجابة عنه النتائج التي خلفتها حيرة المفكرين في إعطاء أجوبة مستقاة من التجربة التاريخية؛ الأمر الذي أدى، في كثير من الأحيان، إلى حدوث كوارث ونكسات في حركة التطور الاجتماعي والسياسي في أكثر من بلد. وتطرح الأزمة السورية، بإلحاح كبير، مسألة الإجابة عن هذا السؤال أيضاً.

فكلّ من تابع الأزمة السورية منذ بداياتها إلى وقتنا الحاضر، يصل إلى استنتاج أساسي هو أن مجرى هذه الأزمة كانت تتحكم به الأفكار والعواطف، وكأنّ التطور سوف يجري في البلاد وفقاً لذلك! ولم ينجُ من ذلك حتى بعض القوى السياسية التي كان يؤمل منها أن تناقش الأزمة من منطلق موضوعي ذي أبعاد اجتماعية.

إن كل ذلك، وكل ذاك الارتباط بين الفكر والحراك المجتمعي الذي وجد له انعكاساً في أزمتنا السورية بصورة واسعة، دفعني للتصدي لهذا الموضوع الذي أراه حيوياً جداً، والذي أعتقد أن على السياسيين والمفكرين أن يتصدّوا له بصورة واسعة. إن الأخطاء الشخصية، بين شخصين على سبيل المثال، لا تؤثر غالباً إلا على العلاقة بينهما. أما إذا كانت الأخطاء تلامس المجتمع بأسره، فإن النتائج تكون كارثية!.

إن مسألة التغيير الاجتماعي، والتغيير السياسي في نظم الحكم مرتبطة بعوامل عديدة لا يمكن لأي حزب سياسي يسعى إلى التغيير، إلا أن يأخذها بعين الاعتبار. فالتغيير لا يتحقق بناء على الرغبات وحدها، وبالتالي فإن أي حكم سياسي يمكن له أن يتغيّر إذا توفرت متطلبات هذا التغيير، ومن أبرزها، على سبيل المثال، أن هذا الحكم لم يعد قادراً على إدارة بلاده بالطريقة السابقة، وأن هذا الحكم فقَدَ قاعدته الاجتماعية والسياسية وأصيب بعزلة واسعة.. وأنه أيضاً، لم يعد مقبولاً دولياً، وأن الشعب منظّم بصورة أرقى من جميع المنظمات التابعة له. عند ذلك سيحدث التغيير، وتستطيع القوى السياسية التغييرية أن تقود هذا التغيير، إذا استطاعت أن تكون على مستوى الإدراك لهذه العوامل التي تتطلب، من أجل معرفتها بدقة، دراسة عميقة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري والثقافي.. أي دراسة مجتمعية كاملة لمعرفة هذه العوامل وهل هي متوفرة لإحداث مثل هذا التغيير. لا يكفي، على سبيل المثال، القول: إن هذا الحكم معزول سياسياً، دون معرفة دقيقة لمواقف مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية منه، فإلقاء الكلام دون تدقيق يؤدي إلى نتائج عكسية.

وينطبق ذلك على العوامل الأخرى التي يجب دراسـتها بتمحيص ودراية دقيقين، لأنه يمكن عند ذاك وضع استراتيجية عامة للتغيير، دون أن يؤدي ذلك إلى نكسات وتراجعات وإجهاضات!.

لم يأخذ المجرى النضالي لحل الأزمة السورية هذا المنحى.. وكانت معظم القوى السياسية المنغمسة أو المنخرطة في هذه الأزمة، تفتقد إلى المعرفة الدقيقة للواقع الاجتماعي، وتصرفت وما زالت، بردود فعل لم تخدم حلولاً للأزمة السورية تفتح طريقاً لمستقبل أفضل لها، بل على العكس من ذلك. إن الارتجال والغرائزية التي اتسمت بها سياسات معظم هذه القوى، على تنوع مشاربها، لعبت دوراً في إجهاض عملية التغيير التي كان يطمح إليها جمهور واسع من الشعب السوري، وفسح المجال لتدخل خارجي وظلامي استفاد من كل ذلك ليحرف المنحى العام الذي كان يجب أن يسير فيه الحل، ونجني الآن الثمرات المرّة من كل ذلك.

إن الواقع والأفكار هما في علاقة متبادلة فيما بينهما، وفي ظروف معينة قد يتبادلان الأدوار، إذ قد يلعب الفكر الدور المحرّض في تغيير الواقع. بيد أن الواقع وصيرورته دائماً هو الذي يحدد الأفكار بصورة عامة، إذ لا يمكن لأي فكر مهما كان متقدماً أن يغيّر الواقع بصورة جذرية، إذا لم يكن هذا الواقع ناضجاً لعملية التغيير. إن انفصال الفكر عن الواقع يؤدي إلى نكسات، كما جرى معنا في أزمتنا هذه، ويجب أن يعمل الجميع من أجل إعادة ربطه بالواقع، لأن مثل هذا الربط يمكن أن يشكل دليلاً لنا جميعاً من أجل سورية أفضل.

العدد 1105 - 01/5/2024