حول المرجعية الفكرية

 يحوز الحديث عن المرجعيات الفكرية على أهمية متزايدة، وخصوصاً أن هناك آراء متعددة ومتنوعة تتناول هذا الموضوع، إضافة إلى وجود مرجعيات مختلفة، منها الدينية، ومنها القومية، ومنها الماركسية وغيرها.. بل إن الأمر لم يقتصر على ذلك فقط، إذ أصبح هناك مرجعيات شخصية كرجل دين ما أو سياسي أو مفكر أو غير ذلك.

والحقيقة أن مناقشة هذه القضية التي تبدو للبعض غير مهمة، يراها البعض الآخر على درجة كبيرة من الأهمية، ويعود السبب الأساسي في ذلك إلى النتائج السلبية التي خلفتها بعض المفاهيم عن المرجعية، إذ أعطتها بعداً مطلقاً، ما أدى فعلياً إلى عرقلة التطور الفكري والديمقراطي، وخصوصاً في بعض الدول التي سارت على هدى هذه المرجعيات، وبالتالي فإن مناقشة هذه القضية قد تساهم مساهمة ما في تكون وعي ديمقراطي، ووعي مرتبط بحركة الحياة، وعي مرتبط بالواقع وتجلياته الغنية والمتنوعة بلا حدود.

إن السؤال الذي يطرح الآن متعلق أولاً بمفهوم المرجعية، إنها تعني وجود منطلقٍ فكريّ أساسي تستند إليه كل منظومة الأفكار اللاحقة، وتنبثق عنه، ويجب أن لا تتعارض معه مطلقاً، لأنها صحيحة وصالحة لكل زمان وفي كل مكان.

إذاً إن هذا الأساس الفكري أو القاعدة الثابتة تبنى عليها منظومة من الأفكار كاملة مثلما يكون الأساس مرتكز أي منزل. من هنا نرى أن الثابت في هذه العملية هو القاعدة أو المرجعية، أما المتحرك فهو ما يبنى على هذه القاعدة أو ما ينشأ عنها من بنية فكرية يجب أن لا تتعارض معها، وإن المس بهذه القاعدة سيؤدي إلى المس بكل الأساس الفكري المنبثق عنها.

من هذا المنطلق، كان التعبير فلسفياً عن هذا الأمر يؤدي إلى إعطاء الجانب السكوني الأهمية الأولى، في الوقت الذي يأتي فيه الجانب الحركي بالمرتبة الثانية، بينما تؤكد الحياة أن الجانب السكوني هو دائماً نسبي، وأن الحركة لها طابع الإطلاق.. وهذا أدى بصورة منطقية إلى النظر إلى عملية التطور الاجتماعي من منظور أفكار مسبقة، من منطلق هذه المرجعية أو تلك.

وإذا كانت هذه التطورات لا تتفق معها، ولا مع بنائها الفكري، كان يجري تفصيل كل تلك المتغيرات على مقاس هذه القاعدة أو المرجعية، الأمر الذي جعل معالجتها قاصرة وميكانيكية وغير مفهومة.

لقد أدت سيطرة مفهوم المرجعية على هذه الشاكلة، والانطلاق منها في تفسير كل الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، إلى ركود فكري عميق وعجز عن الارتقاء إلى مستوى العصر.

لم يستطع الكثير من القوى السياسية والمجتمعية الآخذة بمبدأ المرجعية أن تلاحظ التغيرات التي كانت تجري في العالم نتيجة التطور العاصف للعلم والتكنولوجيا، وانعكاس ذلك في العالم أجمع.

إن الانطلاق من مفهوم المرجعية المطلقة الصحة قد أدى إلى سيطرة الفكر التسليمي، الذي يقبل الأشياء دون إخضاع للشك، أي المناقشة، وجعل من القوى الرافعة لهذا المفهوم قوى محافظة، وبالتالي كانت مساهمتها غير وازنة في تسريع الحركة الاجتماعية، بل يمكن القول إنها أعاقتها، ولعبت دوراً في إجهاض الأفكار النهضوية التي كانت ملامحها الجنينية قد بدأت تظهر في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى تكريس منظومة فكرية شمولية أعطت تبريرات لرفض الآخر، ولرفض الحوار الفعلي والاضطهاد اللاحق نتيجة الاختلاف بالرأي، ونظرية المؤامرة، وأدى كل ذلك إلى إعاقة عملية التطور الديمقراطي، وعدم تكريس تقاليد ديمقراطية، وكان لهذا الطرح دور سلبي لا يستهان به في تكوين وعي اجتماعي قادر على الارتفاع إلى مستوى مهام العصر.

وأخيراً من الضروري الإجابة عن السؤال التالي: هل توجد هناك مرجعيات فكرية حقيقية أم لا؟!…إن معطيات الحياة تؤكد عدم وجود مرجعيات مطلقة، من المنظور العملي.

إن أي فكر هو مرتبط ارتباطاً عضوياً بالمرحلة التاريخية التي نشأ فيها، فما هو صحيح في ظرف تاريخي محدد يصير غير صحيح في ظرف تاريخي آخر.. ولا يمكن القول إن البشرية قد وصلت أو يمكن أن تصل إلى ذروة المعرفة.. فالعالم، كما يؤكد العلم، هو لانهائي، وهو متطور بشكل لا نهائي، وأن القوانين الطبيعية المكتشفة هي مرتبطة أيضاً بظروفها، كقوانين الميكانيك على سبيل المثال، المتعلقة بسكون الأجسام الصلبة البطيئة وحركتها.. إنها مرتبطة بظروف محددة ولها طابع نسبي. إن المرجعية الأساسية هي إذاً قوانين الحياة الطبيعية، قوانين الواقع المادي وحركته الدائمة التي تفعل فعلها في شروط محددة.

أما ما يتعلق بالقوانين الاجتماعية، فهي أيضاً مرحلية، وتفعل فعلها في ظرف تاريخي محدد، فما ينطبق على مجتمع ما لا ينطبق على مجتمع آخر. إن المهام المطروحة أمام القوى التي يهمها مستقبل أكثر رقياً وأكثر تقدماً هو البحث والتفتيش عن تلك القوانين بشكل دائم وموضوعي، وبصورة ملموسة ومشروطة بظروف محددة. إن مرجعياتنا يجب أن تكون هذا الواقع بحركته المستمرة وبالتالي يجب تدقيقها باستمرار على ضوء ذلك، أو التخلي عنها إذا أثبتت الحياة بطلانها، ولابد هنا من ملاحظة أمر على جانب من الأهمية، يكمن في أن الوعي الذاتي للواقع قد يكون في كثير من الأحيان مشوهاً وخاطئاً، وبالتالي يجب تدقيق هذا الوعي باستمرار من خلال الاحتكام إلى التجربة.

وأخيراً لابد من التطرق إلى الأيديولوجيا التي أخذت طابعاً دينياً مقدساً من حيث الجوهر، ليس فقط للأحزاب الدينية، بل حتى للكثير من القوى العلمانية التي وقعت أسيرة هذه النظرة….يجب إعادة الحسبان للجوهر الفلسفي للأيديولوجيا، أي إعطاؤها الحياة والحركة ورفض المسلمات، وملاقاة الجديد دائماً، وتدقيقها باستمرار على أرضية حركة الواقع الاجتماعي المتغير باستمرار.

العدد 1104 - 24/4/2024