(حرب نهاية العالم) لبارغاس يوسا: حين يحاول المعتوهون تغيير العالم

تقول الحكاية التي هي وراء الحكاية، إن فكرة كتابة رواية حول حرب كانودوس التي وقعت في البرازيل، في المناطق الخلفية لباهيا، أواخر القرن التاسع عشر، أتت ماريو بارغاس يوسا، يوم أخفق مشروع كان يشتغل عليه لكتابة سيناريو حول تلك الحرب. كان يفترض بالسيناريو أن يكون مقتبساً من كتاب صدر في البرتغالية (لغة البرازيل) عام 1902، من تأليف إقليدس كونيا، وهو صحافي وكاتب عايش تلك الحرب ليكتب عنها تحقيقاً سرعان ما اعتبر قمة من قمم الأدب البرازيلي بعنوان (السرتاويون).

كان كتاباً كونياً نوعاً من تحقيق تاريخي، لكنه كتبه كنوع من (سيرة ذاتية)، ذلك أنه كان هو نفسه جزءاً من الحدث، عايشه مندمجاً مع أطرافه الرئيسية ليكون واحداً من قلة من أفراد خرجوا منها سالمين. وهذا الكتاب بالتحديد هو الذي اشتغل عليه يوسا لاحقاً ليحوله إلى تلك الرواية الرائعة التي اعتبرت قمة من قمم آداب أمريكا اللاتينية (حرب نهاية العالم).

بكلمات أخرى، أعاد يوسا كتابة نص كونيا، ولكن على طريقته الروائية، إنما من دون ان يرد فيه اسم كونيا، إلا في الإهداء… ومع هذا لن يفوت القارئ أن يرى هذا الكاتب حاضراً في طول الرواية وعرضها. هو الشخص الوحيد بين عشرات الأشخاص الرئيسيين الذين تعج بهم رواية لا يقل عدد صفحاتها عن 700 صفحة – في أي ترجمة من ترجماتها العديدة، ومنها العربية التي حققها العراقي أمجد حسين بتفوق لغوي، خفف من أهميته مجموعة من تحريفات في الأسماء يعود ربما إلى كون الترجمة العربية حققت من الإنكليزية – ، الوحيد الذي لا اسم له. يسمى فقط (الصحافي قصير النظر)، لكن هذا لا يبدو كبير الأهمية، ما دام هذا الصحافي ليس سوى الأنا/ الآخر للمؤرخ الذي لم يكفّ يوسا عن الاعتراف بفضله في وجود هذه الرواية.

كما قلنا، تروي (حرب نهاية العالم) قصة حرب قد تكون خصوصيتها البرازيلية فاقعة. غير أن موضوعها يبدو أرحب من ذلك بكثير. يبدو موضوعها، وحتى في بعض أعمق تفاصيله، صالحاً حتى لتفسير (حروب) من هذا النوع تدور في أيامنا هذه. الحقيقة أنه ما من رواية أخرى تبدو قادرة مثل (حرب نهاية العالم) على تصوير الصراع بين العقل واللاعقل، بين منطق التقدم والخرافة، بين مجانين الماوراء والساعين، ولو بالبطش، إلى الدفاع عن قيم الديموقراطية. صحيح أن هذا كله يبدو واضحاً في سياق الرواية، غير أن المسألة في نهاية الأمر تبدو أكثر عمقاً بكثير. ولعل هذا العمق هو الذي يجعل هذا العمل، عملاً مضاداً للإيديولوجيا حيث من المستحيل على القارئ، وهو يتنقل بين فصولها، أن يندفع إلى الوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك فيها.

ليس هذا لأنه لن يعرف كيف يحسم أمره، ويختار موقعه بين الطرفين المتقاتلين، بل لأن الكاتب – ويشكل هذا البعد أروع ما في هذه الرواية – حين يتنقل بين أجواء الفريقين، لا يعرض وجهة نظره حول مواقفهما، بل يلجأ إلى لعبة (ثلاثية) ذلك أنه ينقل الأخبار والآراء والمواقف، على لسان الشخصيات المشاركة. وهذا الشكل الروائي المدهش – والمذهل أحياناً – الذي اختاره يوسا، يحول الشخصيات التي يفترض أنها آتية من كتب التاريخ، إلى أشخاص من لحم ودم. إنهم أناس يجلسون بيننا، نشاركهم مخاوفهم وآمالهم الفردية والجماعية. وحتى الجنود الذين اعتيد أن يقدموا في هذا النوع من الآداب التاريخية، كتلاً من الأزياء والأسلحة والتجهم، نراهم هنا بشراً يحبون ويحلمون ويخافون ويحاربون ويموتون كبشر. ومن هنا، ما إن يندفع القارئ في التعاطف مع فريق ما، حتى يجد نفسه بعد صفحات قليلة، جزءاً من الفريق الآخر.

ولكن من هم هؤلاء جميعاً؟ وماذا يفعلون هنا على صفحات هذا الكتاب؟ إنهم برازيليو السنوات الأخيرة قبل بداية القرن العشرين: من ناحية أنصار الجمهورية الوليدة قبل سنة واحدة إثر انقلاب جمهوري أطاح بملكية آل براغانسا، بما في ذلك الأحزاب المتنازعة وسكان المدن والتجار والمثقفون. ومن ناحية ثانية أنصار (المرشد) وهو (مسيح معاصر) يزعم أنه مبعوث العناية الإلهية لخلاص البشر قبل حلول نهاية العالم التي حدد موعدها في عام 1900، أي بعد ثلاثة أعوام من تاريخ اندلاع الأحداث. وعلى رغم أن هذا (المرشد) يشكل مركز الاستقطاب ومحور الموضوع، فإننا نكاد لا نعرف عنه شيئاً، سوى اسمه: أنطونيو كونسلييرو، واللون الأرجواني لعباءته الكالحة، وكاريزماه الهائلة التي راحت تزداد يوماً بعد يوم في أوساط حثالة الحثالة من أبناء المناطق الفقيرة والمحرومة بالقرب من باهيا.

صحيح أن (المرشد) كان يتجول ويبث أفكاره في شمال البرازيل منذ عقود، لكن حوارييه ظلوا قلة قليلة، حتى إعلان الجمهورية. فقد انطلق على الفور معادياً لها، معتبراً أياها مؤامرة ماسونية – بروتستانتية كافرة معادية لله وللمسيح، عازمة على إعادة نظام الرق والنظام المتري وفصل الدين عن الدولة. وهكذا بعدما كانت دعواه (إيديولوجية) قابلة للانتشار المحدود أول الأمر، تحولت الآن إلى دعوة اجتماعية تستند أساساً إلى فكرة إعادة الملكية بوصف الملك ذا حق الهي. فراح أتباعه يتضاعفون في شكل مرعب، البائسون وقطاع الطرق، المجرمون والعبيد السابقون، المزارعون المطرودون من أراضيهم وكل أنواع الحثالة… من الذين التحقوا به لتأسيس إمارة إلهية في مدينة كانودوس.

وسيكون لافتاً أن من بين مؤيديه ثمة اسكوتلندي ثوري محترف هو غاليليو غال، الذي اعتبر تلك الثورة ماركسية من دون أن يدرك اصحابها ذلك. والحقيقة أن غال يلعب في الرواية دوراً أساسياً في تنقل القارئ بين الجانبين، يوازيه الدور الذي يلعبه الصحافي قصير النظر، والفتاة جوريا التي كانت خادمة في بيت البارون كانابرافا قبل أن تتزوج قصاص أثر يدعى روفينو سيستعين به غال لإيصال أسلحة إلى (الثوار)، فيغتصبها هذا في غياب زوجها لتنضاف إلى شبكة أحداث الرواية تلك الحكاية الخاصة التي سيتجابه فيها غال والزوج حتى مقتل الاثنين.

لقد ملأ يوسا روايته بعشرات الحكايات الخاصة التي ترفد التاريخ العام وتضيء عليه. فلكل واحد حكاية، من مخلوقات السيرك العجيبة، إلى (أم الرجال) مساعدة المرشد الأولى التي ليست في الأصل سوى امرأة قتلت طفلها كي يسكت حين أزعجها بكاؤه. أما التاريخ الحقيقي، فهو حكاية الحملات الثلاث التي شنتها الجمهورية تباعاً للقضاء على (ثورة الحثالة). الحملتان الأوليان فشلتا مسفرتين عن مذبحتين للجنود – تتخللهما مشاهد سياسية بديعة تتعلق بالأحزاب المدينية وصراعاتها -، أما الثالثة فلسوف تنتهي بإبادة الثورة والثائرين بمن فيهم المرشد نفسه وأعداؤه الأساسيون من (جواو الكبير) إلى (جواو آبادي) إلى (اسد باتونا) إلى (الصبي المبارك)، وغيرهم من الذين ـتوا من عوالم البؤس والفاقة والإجرام وقطع الطرق، ليتحولوا تحت رعاية المرشد إلى قديسين – وبالمعنى الحقيقي للكلمة، ذلك أن الباحث المدقق لن يفوته أنه (يقرأ) في سلوك وتاريخ كل واحد من المعاونين، الذين سيواصلون الحرب حتى الوصول إلى العالم الآخر ذبحاً وحرقاً وسلباً وما إلى ذلك، صورة لتاريخ القديسين الحقيقيين الذين كانوا يحيطون بالسيد المسيح.

والحقيقة أن يوسا، وعلى هذا المستوى من السرد، حوّل روايته، إلى عمل رمزي شديد الجرأة. ومع هذا فإن قوة الرواية الملحمية الرئيسة تكمن في تلك النقلات التي حققها الكاتب بين العام والخاص. في تلك الأدوار التي أسندها في عمل كان يفترض به أن يكون مجرد عمل تاريخي، إلى الأفراد وحياتهم. وهذا ما جعل كثراً من النقاد والكتاب يقاربون بين (حرب نهاية العالم) من ناحية و(الحرب والسلم) لتولستوي من ناحية أخرى. وهؤلاء النقاد والكتاب قارنوا هذه الرواية التي صدرت في الاسبانية أول الأمر في العام 1981، برواية (مئة عام من العزلة) لغابريال غارسيا ماركيز، التي صدرت قبلها بسنوات، ما ساهم في جعل ماريو بارغاس يوسا، يعتبر واحداً من أكبر كتاب القارة اللاتينية وأهّله لنيل جائزة نوبل الأدبية بدوره. وكان هذا بفضل (حرب نهاية العالم)، ولكن كذلك بفضل روايات له رائعة أخرى مثل (عيد التيس) ز(الجنة وأبعد قليلاً) (عن فلورا تريستان وغوغان) ز(المدينة والكلاب) ز(الخالة جوليا والكاتب) ز(البيت الأخضر) ز(محادثة في كاتدرائية) وغيرها.

(الحياة)

العدد 1107 - 22/5/2024