في الثقافة غير الوظيفية…سعد الله ونوس أنموذجاً

(المثقف صوت يَجْهر بالحقيقة في وجه القوة..)_نعوم تشومسكي

كل الوقائع والمعطيات تشير إلى أنّ السلطة العربية تريد ثقافة موظّفة في خدمتها، ومفصّلة على قياسها.. وأنها أي السلطة العربية لا تحب أن ترى في المثقفين إلا حاشية من الطبّالين والزمّارين يسيرون في ركابها، وأنها، وفق تقليد شرقي قديم، لا ترى للمثقف من مهمة أخرى غير أن يكون بين يدي السلطان كاتباً، أو خادماً، أو مؤنساً، أو مادحاً.. على حدّ تعبير المفكّر (حافظ الجمالي).

وكل ما يجري على أرض الواقع عملياً، وكل المعطيات تشير إلى أن السلطة العربية نجحت – على وجه الإجمال – فيما تريد، وفيما ترى.. كما تشير إلى أن الكثير من (المثقفين) قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، يرون في الثقافة تجارة رابحة تسري عليها القوانين التجارية (…) ويتّخذون من الثقافة مهنة ينطبق عليها التسليع والتداول والتبادل والتفاوض والعرض والطلب… وينشدون منها المزايا والريْع اقتصادياً وسياسياً.. واضعين مصلحة البلاد والعباد وراء ظهورهم. ومن سمات هؤلاء (المثقفين):

– أنهم بلا كرامة فكرية وأخلاقية..

– أنهم لا يُقدمون رأياً واضحاً في أي مشكلة أو قضية أو موضوع من الموضوعات.. وفي أحسن الأحوال يسلكون سبيل التوليف والتوفيق والتلفيق، ويجمعون المتناقضات في كيس واحد، لابسين ثوب العارف الخبير في كل شيء (..؟!).

– أنهم ينحنون أمام القوة والمال.. ويستسلمون للديكتاتوريين والقتلة.. ويشيدون بهم، ويبرّرون ممارساتهم الجحيمية.. ويدعون إلى عدم التعرض لهم…

– أنهم يهربون من الأزمات (السياسية، الاجتماعية، الثقافية).. ويلوون عنق الحقيقة، ويقومون بتزويرها….

– أنهم يدينون أي حديث عن (الثوابت) وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بإدانة الولايات المتحدة الأمريكية، أو تحرير فلسطين، أو تغيير الأنظمة العربية الاستبدادية، الفاسدة والتابعة.. ومن اللافت أن هؤلاء (المثقفين) لا يجدون غضاضةً في السكوت الثابت عن نقد الأنظمة الرجعية والاستبدادية والعميلة.. أو في القبض الثابت من خزائنها ووسائل إعلامها.. كما يقول الدكتور سماح إدريس رئيس تحرير مجلة الآداب.

– أنهم – وهنا بيت القصيد – يندمجون في الأنظمة السياسية الحاكمة.. ويوظِّفون أنفسهم وثقافتهم في خدمة مصالحها وخياراتها.. في مختلف الميادين، وعلى المستويات كافة.

على الضفة الأخرى هناك – في كل الأزمنة والأمكنة – مثقفون يقعون على طرفي نقيض مع كل ما كُتب أعلاه؛ يناهضون الثقافة الوظيفية، التجارية، الغنائمية والانتهازية… وينحازون إلى الحق والخير والعدالة والحرية والجمال وكرامة الحياة والأوطان، ويدافعون عنها بثبات وحزم واقتدار… والمبدع المثقف الحَيَوِيّ (سعد الله ونوس) قدوتنا في هذا المقام، ومثالنا الذي يُحتذى به…

إنّ الثقافة لدى سعد الله ونّوس (وهذه مسألة تحتل من الأهمية حدّها الأقصى في نظرنا وهي عند سعد الله ونوس بمنزلة العمود الفقري) لم تكن وظيفية، أيْ أنّ هذه الثقافة لم تكن موظّفة في خدمة السلطة، ولم تكن مؤسسة على أساس الاندماج في الأنظمة السياسية الحاكمة والانخراط في مقولاتها وعقائدها ومشاريعها وامتيازاتها ومصالحها وخياراتها على الصعد كلها، كما لم تكن مفصّلة على قياس الحكام والسلاطين والملوك والأمراء والزعماء والجماعات والتنظيمات والمؤسسات، بل نستطيع أنْ نتقدم خطوة إلى الأمام ونقول: إنّ الثقافة لدى سعد الله تقع على طرفي نقيض من الثقافة الوظيفية، والمسافة الفاصلة بين سعد الله وثقافته، والأنظمة التسلطية وتجلياتها هي مسافة شاسعة دونها مسافات، فالثقافة (الونوسية) عملت عبر إبداعات سعد الله وكتاباته على تنبيه الوعي وبعثه وعلى فضح كل أنواع الاستبداد وأشكاله، كما عملت على تعرية كل مفردات الأنظمة التسلطية، ومابرحت الثقافة غير الوظيفية تناوش هذه الأنظمة التسلطية وتكشف أقنعتها وآليات قمعها..

وسعد الله ونوس من قبل ومن بعد كان من المثقفين الأصلاء القلائل الذين بقوا حتى لحظة رحيلهم أوفياء وفاء مطلقاً لكلمتهم، وأعطونا، عبر مسيرتهم الثقافية والإبداعية، مثالاً يحتذى في الكرامة الفكرية والأخلاقية، وهدموا بيد مباركة ذلك الجدار الملعون الفاصل بين الفكر المعلن والفكر المعيش، وإلى هذا وذاك فقد كان سعد الله ونوس طاقة إبداعية فذّة استطاعت باقتدار مميز أنْ تجمع بين الفكر والفرجة في وحدة فنية خلاقة عضوية لا انفصام فيها بعيدة كل البعد عن أي مراوغة أو مجاملة أو مداورة أو مهادنة أو مخاتلة.. أسقطت جميع أشكال الأقنعة وساعدت المتفرج على فهم ذاته ووجوده وعالمه وواقعه.. وعملت على إيقاظ الوعي لدى هذا المتفرج ووضعته في مواجهة مفتوحة مع ذاته ووجوده وعالمه وواقعه السياسي والاجتماعي والثقافي… ‏

لقد كانت العلاقة القائمة بين سعد الله ونوس ومسرحه علاقة صميمية حميمة احتراقية، بل كانت العلاقة بينهما بمنزلة الروح من الجسد، والجسد من الروح، وعلى ضوء هذا الاحتراق النبيل، وهذه العلاقة العشقية حتى الموت كتب سعد الله عنا ولنا، وأبدع ما أبدع من أجل غدٍ حرٍّ كريم عادل، متقدم وحضاري.. يقول (جيور دانو برونو): مع أننا قد لا ندرك قطّ الهدف الذي تشوّقنا إليه ومع أن شدّة الجهد قد تلتهم النفس ولا تبقي منها شيئاً، فإنه يكفي أن تحترق بمثل هذا النبل.. وحسب سعد الله هذا الشرف…

وبعد.. بناء على كل ما تقدم أدعو دعوة حارة إلى ثقافة وطنية تقدمية منفتحة وتنويرية مضيئة… تشنّ حرباً شعواء على التخلف والجهل (والجهل المُرَكَّب) والسلبية والفساد والفردية المُتَوَرِّمة… تلتزم قضايا الوطن الكبرى وحقوقه وأهدافه (…) وتعمل على صيانته وحمايته وإعادة بنائه ماديّاً ومعنوياً بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معانٍ ودلالات ومفردات وجودية أساسية منشودة.. أدعو إلى ثقافة تقف وقفة لا هوادة فيها في وجه الاستبداد وقوى الهيمنة والاستعمار الغربي والإمبريالية الأمريكية وسليلتها الصهيونية.. وتقف في وجه (الثقافة) الظلامية، المُغلقة، التكفيرية القاتلة.. وإلى هذا وذاك ثقافة تقف بصرامة في وجه (الثقافة) الوظيفية، التجارية، السلعية، المداهنة، الخانعة والانتهازية…

العدد 1105 - 01/5/2024