بعض الأفكار حول المسألة الديمقراطية

هناك كثير من الجدل في الظرف الراهن حول هذه المسالة، فثمو من يعتبرها غريبة عن واقعنا وخصوصياته، وهي مستوردة من الغرب وتعكس ظروفه فقط، وهناك من يقول إن الديمقراطية هي مشروطة، وإنها يجب أن تعكس مصالح طبقة محددة، وهناك من يقول إن الديمقراطية يجب أن تأخذ طابعاً مطلقاً، وأن لا يكون لها حامل اجتماعي، بل حامل إنساني، وهناك من ينظر إلى مسالة الديمقراطية من المنظور الديني الرافض لها. باختصار، إن هذه المسألة هي جدلية، ولا شك في أن النقاش حولها، وتلمّس موقف أقرب إلى الصحة منها يصبّ في اتجاه تكوّن المجتمع المدني المصبو إليه.

 من أجل مناقشة هذه الآراء، لابد من التطرق ولو قليلاً إلى المسألة من منظور تاريخي، لقد تبلور مفهوم الديمقراطية عبر تطور تاريخي مديد، وقد ارتبط ارتباطاً عضوياً بالتطور الحضاري للإنسانية.

وهنا يجب القول إنه إذا كان مفهوم الديمقراطية مقتصراً على الفئات الحرة في المجتمع قديماً، ويستثنى منه المنتجون الحقيقيون، فقد تطور هذا المفهوم لاحقاً كي يصبح شاملاً يمس كل الفئات الاجتماعية دون استثناء، وهو مستمر في التوسع مع تطور المجتمعات البشرية.

لاشك أن حدّة الصراعات الاجتماعية كانت تمارس تأثيرها على تبلور مفهوم الديمقراطية سلباً، وتعيق تطوره، ولكن لم تكن لتستطيع أن تحول دون هذا التطور، فالديمقراطية كانت تشق طريقها بشكل دائم ومضطرد رغم كل الصعوبات التي تحيط بها. لقد كانت مسألة الديمقراطية مرتبطة دائماً بالنضال الاجتماعي الدائر الذي كمن محتواه في دفع البشرية إلى الأمام، ومن جهة ثانية، كان مرتبطاً بوعي الإنسان وتطوره الحضاري، وقد دفعت الشعوب أثماناً باهظاً على طريق الدمقرطة.

إن ما توصلت إليه الإنسانية حول مسألة الديمقراطية في ظرفنا الراهن يمكن تلخيصه بما يلي: إن الديمقراطية تعني حرية الرأي والفكر، وما ينبثق عن ذلك من مؤسسات مثل: الأحزاب، والنقابات، والجمعيات والصحافة، والاتحادات المهنية وغير ذلك، وهي جميعها تدخل في صلب التطور الحضاري، وهي حق من حقوق الإنسان، بصرف النظر عن انتمائه الاجتماعي في التعبير عن رأيه، وفي النضال من أجل مصالحه، وإذا كان العنف هو ما اتصف به هذا النضال سابقاً، فقد بلغت البشرية ذلك المستوى من التطور الحضاري، بحيث أصبحت فيه قوى اجتماعية واسعة تعي هذه الموضوعة، وهي تتسع أكثر فأكثر.

إن مسألة الديمقراطية إذاً هي مسألة إنسانية، وتستخدمها الفئات الاجتماعية المختلفة لخدمة مصالحها، وهذا أمر طبيعي، بيد أن المعضلة تكمن في أن تستخدمها فئة اجتماعية وتمنع فئة أخرى من استخدامها، إن الأمر الطبيعي هو أن يكون لكل الفئات الاجتماعية والسياسية الحق في التعبير عن وجودها، والتعبير عن رأيها وفكرها وسياستها، وأن تقوم بإيجاد المنظمات والمؤسسات التي تتيح لها هذا التعبير، ولكن دون أن تمنع عن فئات اجتماعية أخرى هذا الحق، إن ربط المسألة الديمقراطية بفئة اجتماعية أو حزب سياسي محدد أو بمجموعة أحزاب سياسية، فكرة تؤدي إلى تحويل هذه المسألة من مسألة مرتبطة بتطور تاريخي حضاري طويل له انعكاسات في وعي الإنسان الاجتماعي، إلى مسألة يلعب فيها العامل الذاتي الدور الأكبر، أي إلى شخصنة هذه المسألة.

إن سيطرة فكرة ربط الديمقراطية بالمواقف السياسية والاجتماعية وبالحامل الطبقي قد أدت إلى ما أدى إليه المفهوم الخاطئ عن المرجعية، أي رفض الديمقراطية لقوة اجتماعية، وتحليلها لقوى اجتماعية أخرى، ومن يحدد ذلك؟ يحدده حزب، وهو عامل ذاتي، أو لا يحدده في كثير من الأحيان حزب، وإنما قيادته، وباختصار يُنزَع المحتوى الإنساني للديمقراطية. إن التاريخ يؤكد بصورة قاطعة أن أي فئة اجتماعية موجودة فعلياً لا يمكن القضاء عليها بصورة إرادية، إن الفئات الاجتماعية تظهر وتضمحل نتيجة تطور تاريخي لا عن طريق قرارات تُتّخذ، وبالتالي يجب أن يكون لكل فئة اجتماعية حقها في التعبير عن فكرها وما ينشأ عن ذلك من مؤسسات مختلفة، شرط أن لا تلغي حقوق الفئات الأخرى.

لم يستطع العديد من المفكرين السابقين وعي حقيقة الجانب الإنساني للديمقراطية بحكم قساوة الصراع الاجتماعي، وبحكم تدني مستوى التطور الحضاري، بيد أن الاستمرار في ربط المسألة الديمقراطية بفئة اجتماعية ومنعها عن فئة اجتماعية أخرى، إنما تعني من الناحية العملية تغييب فئات اجتماعية عديدة انطلاقاً من الجانب الاعتقادي، ويؤدي ذلك بالضرورة إلى زعزعة الاستقرار في أي مجتمع، وإلحاق الأضرار الجدية، حتى بتلك الفئات والقوى التي ربطت المسألة الديمقراطية بالموقف من الشعارات التي رفعتها.

وفي هذا السياق أيضاً لابد من التطرق إلى تلك الأحاديث التي تجري، والتي تركّز على خصوصيات هذا المجتمع أو ذاك فيما يتعلق بالمسألة الديمقراطية، إن هذا التركيز ليس في الواقع سوى محاولة للحفاظ على امتيازات محددة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، فأي خصوصية لشعب تحول دون أن يكون للناس الحق في التعبير عن الرأي أو في تكوين منظمات لهم؟ كما أنه لا يجري التطرق إلى هذه الخصوصيات ويجري التهرب من ذكرها، فأية خصوصيات تعيق عملية الدمقرطة لأي مجتمع أو شعب، أو تلغي هذا الحق الإنساني عنهما؟ إن التذرع بهذه الحجة، لأجل الحد من الديمقراطية قد أدى ويؤدي إلى ركود فكري وسياسي في المجتمع، وإلى وضع الحواجز والسدود أمام تكوّن المجتمعات المدنية التي تعتبر الديمقراطية أحد أبوابها الأساسية.

إن الديمقراطية هي مسألة على درجة بالغة من الأهمية في نضال أي شعب من أجل تطوره وتقدمه اللاحق، وازدهاره في كل المجالات، وأية قوة تقدمية لن تستطيع النجاح بصورة حقيقية إن لم تقدم النموذج الأفضل في هذا المجال للجماهير الشعبية.

إن الديمقراطية هي نتاج إنساني حضاري مستمر في التطور، ويغتني باستمرار ويمكن لأية فئة اجتماعية أن تستخدمها، ويمكن للقوى التي تحمل في طياتها المستقبل أن تستخدم الديمقراطية لا لتحقيق مصالحها فقط، وإنما مصالح الإنسانية في سيرها الحثيث والمضطرد نحو عالم أفضل.

العدد 1104 - 24/4/2024