مَنْ يوقف هذي الريح السوداء..؟..(في مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني)

(مَنْ يوقف هذي الريح السوداء)؟ هذه الكلمات من قصيدة للشاعر العربي الفلسطيني الكبير (عز الدين المناصرة) تصف – من باب المجاز الإبداعي – وصفاً دقيقاً حالتنا العربية الراهنة (…) فاستعرتها لتكون مدخلاً لمقاربتي، فهذه (الريح السوداء) تجتاحنا مسعورة في مختلف الميادين وعلى كل صعيد، وتعمل، بلا كلل وبلا ملل، على تهديم وتحطيم آخر قلاعنا، ألا وهي القلعة الثقافية؛ لأنها تعلم علم اليقين أن البنية الثقافية في أي بلد من البلدان عندما تتصدع وتنهار.. تتصدع وتنهار معها البنى الأخرى كلها… وأن هزيمة أي أمة من الأمم هزيمة كاملة تستدعي أولاً هزيمتها ثقافياً/ معنوياً (تاريخاً وتراثاً وقيماً.. فكراً وعقلاً وروحاً وأخلاقاً وذوقاً.. عاطفة ووجداناً ونفساً وسلوكاً…).

****

منذ عقود حتى وقتنا الحالي، لا يكاد يمرّ يوم دون أن تنقل لنا الفضائيات العربية وغير العربية، ووكالات الأنباء والإذاعات ومختلف المجلات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي… دعوة هذا النظام أو تلك الجهة.. هذا الحاكم أو ذاك السياسي.. هذا الكاتب والإعلامي وذلك المثقف.. إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني. وها نحن في هذه الأيام نقرأ، ونسمع، ونشاهد هذا الهَرْج والمَرْج من على مختلف المنابر الإعلامية والثقافية.. بسبب ظهور الكاتب اللبناني (أمين معلوف) على إحدى القنوات الفضائية (الإسرائيلية)، وقد أدى هذا الظهور إلى انقسام (الناس) انقساماً حاداً؛ بين رافض ومندّد.. وبين مؤيد ومرحّب.. إلى جانب من كان بين المنزلتين.. ومن كان رمادياً، ومن التزم الصمت…

وها نحن نشاهد، مرّة أخرى، هذا الهَرْج والمَرْج على إيقاع انعقاد مؤتمر (هرتزيليا) الصهيوني.. وهذا التراشق الإعلامي والسياسي والثقافي… فصدق في الحالتين قول المعري:

وجدْتُ الناسَ في هَرْجٍ ومَرْجٍ

غُواةً بين مُعْتَزِلٍ ومُرْجي

****

جوهر المسألة (مع ظني أن القادم أدهى وأمرّ..) لا يكمن في ظهور الكاتب (أمين معلوف) على قناة (إسرائيلية)؛ فهذا الكاتب له صلة تاريخية (بإسرائيل) على المستويين الشخصي والفني (..؟). ولا يكمن، كذلك، في مجرد مؤتمر صهيوني تطبيعي مع تقديري الكبير لأبعاد مؤتمرات كهذه..ولكن الجوهري في هذا المقام:

1ـ أن هناك مشروعاً صهيونياً، إقليمياً ودولياً يهدف إلى تفكيك القضية الفلسطينية، ومن ثم تصفيتها بشكل نهائي، بمشاركة عربية وفلسطينية ملعونة ومخزية… (مَنْ يهنْ يسهلِ الهوان عليه/ ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ) تدعو الإنسان الحرّ إلى أن يقذف ما في مَعِدَته.. وتَحْمله على المقاومة والمواجهة والتصدي…

2- وأن هناك من الأنظمة والنخب ومن المثقفين الذين يقومون بالترويج لـ (ثقافة السلام) بشكل مجّاني ومريب، إن لم نقل أكثر..؟ ويدعون إلى الانفتاح على الكيان الصهيوني، وإلى تطبيع ثقافي موصوف معه.. تحت ذرائع واهية لا تصمد ولا تستقيم أخلاقياً ومنطقياً وسياسياً:

*اتفاقيات السلام الموقّعة مع الكيان الصهيوني من كامب ديفيد (1978) إلى ما يجري اليوم من فوق الطاولة ومن تحتها (…).

*الفصل بين الثقافي والسياسي (؟).

بداية أقول: هذه الأُطْرُوحات لا بد من النظر والبحث فيها، ولا يجوز السكوت عنها؛ لأنها فاسدة ومخاتلة ومُضللة وتعبث بالأوطان والمصائر والعقول..:

– فهل ظلم الظالم دليل وحُجَّة..؟ أي هل (اتفاقيات السلام) حجة للمثقف للتطبيع مع (إسرائيل)؟ وهل غدت مهمة المثقف تغطية الأنظمة العميلة، بل الخائنة، وتبرير أفعالها الإجرامية واستبدادها وقمعها… إن المثقف ـ ها هنا ـ يستثمر بصورة فاجرة الحالة العربية المتردية، بل المزرية.. ويسير في ركاب الطغاة زمّاراً وطبّالاً.. ويقف بين يدي هؤلاء الطغاة خادماً مطيعاً.. ويلعب في (سيركهم) دوراً مشبوهاً يصل في بعض الحالات إلى مرتبة الخيانة (..؟).

– ومن جهة أخرى، هل يمكن الفصل بين الثقافي والسياسي؟ رصد المعطيات على أرض الواقع وحركة التاريخ تقول بلا شبهة: الفصل بين الثقافي والسياسي لا يمكن أن يكون إلا فصلاً تعسفياً..، وتقول: هناك رباط محكم، ولا سيما في العصر الحديث، بين الثقافة والسياسة لا تنفصم عراه حتى على مستوى العلاقات الاجتماعية… وتقول: كل أمة، كل دولة، وكل سلطة تسعى، ما استطاعت إليه سبيلاً، إلى إيجاد ثقافة تناسبها، وتلبي حاجاتها، وتكون في خدمة توجهاتها ومتطلباتها.. وتعمل على تثبيت دعائمها، وترسيخ منطلقاتها ومفاهيمها، وتسويغ أفعالها، وصياغة مشروعاتها…

وإلى جانب ذلك – وعلى الرغم من قناعتي (الطبيعية) بأن ذيل الكلب لا يمكن له، بأي حال من الأحوال ومهما طال الزمن، أن ينعدل ويستقيم – أسأل الداعين، بألوان الطيف، إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني:

– كيف لنا أن نقيم علاقات طبيعية مع كيان هو في أصله وجوهره مصطنع،غير طبيعي..؟

– ألا تقدم الدعوة إلى التطبيع (حتماً وبالضرورة) خدمة حيوية لـ (إسرائيل)، وللإدارات الغربية عموماً والإدارة الأمريكية خصوصاً، وللأنظمة العربية الرجعية/ الظلامية التابعة.. ولكل من يدور في فلكها..؟

– ألا تقف (إسرائيل) فوق القانون والمجتمع الدوليين، وفوق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وفوق الحق والعدالة.. وتقع خارج دائرة المعايير الإنسانية والأخلاقية والقانونية والحقوقية..؟!

– هل انتهى الصراع العربي ـ الصهيوني (؟) ومن ثم هل سقطت اعتبارات رفض التطبيع..؟

– هل الكيان الصهيوني لم يعد يشكل تهديداً مصيرياً جدياً مستمراً للأرض العربية ووحدتها، بل للوجود العربي كله من ألف إلى يائه..؟

– ألم يحتل اليهود الصهاينة أرض فلسطين احتلالاً كولونيالياً، وتشريد القسم الأكبر من أهلها ممن راحوا يضربون في الآفاق..؟

– ألم تسعَ الحركة الصهيونية، وما زالت، بكل الوسائل والسبل إلى صياغة تاريخ وجغرافية جديدين خاصين بفلسطين.. وعملية التطهير العرقي المتجذرة في الفكر الصهيوني جرت وتجري ضمن هذا الإطار..؟

– ومن ثم ألم تزل محاولات اغتيال فلسطين وتصفيتها مستمرة حتى هذه اللحظة الراهنة..؟

**عَوْد على بَدْءٍ

الصراع العربي- الصهيوني متعدد الجوانب والأبعاد، وموضوع التطبيع ولا سيما في بعده الثقافي، يحتل مكانة مركزية في هذا الصراع المفتوح على الاحتمالات كلها. فالتطبيع وفق الرؤى الصهيونية يعني إقامة علاقات (طبيعية) (سياسياً واقتصادياً وفكرياً وثقافياً…) بين العرب و(إسرائيل) تكون فيها هذه الأخيرة هي المحور والمركز، والعرب هم الأطراف الذين يدورون في فضاء هذا المحور والمركز. وهذا يعني في نهاية التحليل تكريس التجزئة والقطرية وتمجيدهما.. واندحار العرب سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً… وإقامة المشروعات الإمبريالية – الصهيونية.. وبروز كيانات طائفية ومذهبية وعرقية هزيلة، متناحرة ومتصادمة… ومن ثم فإن التطبيع الثقافي – وهو الذي يعنينا هنا – حسب هذه الرؤى الصهيونية ستكون له نتائج كارثية على مستوى الإنسان العربي، وعلى مستوى الأمة العربية ككل، لأن الجبهة الثقافية حين تخترق وتنهار، فإن جميع الجبهات تنهار الواحدة تلو الأخرى.

المثقف الذي (يفكّر) لحساب الإمبريالية الأمريكية، والغرب الأوربي الاستعماري، والأنظمة العربية الاستبدادية.. والقوى الظلامية التفتيتية.. والذي يدعو إلى التطبيع يزعم، فيما يزعم، أن القومية العربية قد (أفلست) وأنها لم (تجلب) لنا إلا الجهل والتخلف والتأخر، وسوى الحروب والخراب والنكسات والنكبات، وغير الأحزاب الشمولية والصوت الواحد والرؤية الواحدة… كما يزعم أن الذين يرفضون التطبيع ويقاومونه هم (خشبيون) واهمون، يقعون خارج دائرة العصر و(متغيراته) ومعطياته (الجديدة)… وثقافتهم هي ثقافة (العنف والموت..)؟

بقي أن أقول:

– الموقف الأخلاقي/ الإنساني فوق الموقف السياسي.

– ثقافة العدالة والمساواة أولاً، و(ثقافة السلام) ثانياً.

– الثقافة، عموماً، في منطقتنا العربية في هذه الأوقات في حالة تقهقر وارتباك…

– الفجور الثقافي والإعلامي والعهر السياسي والانحطاط الأخلاقي والذممي… من السمات العامة للربع الأول من القرن الحادي والعشرين عربياً وإقليمياً ودولياً.

– في حالتنا العربية الراهنة هل يمكن أن يلعب المثقفون و(النخب) دوراً إيجابياً فعّالاً في العملية السياسية.. وفي بناء مجتمعات عربية جديدة مرجوة على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات..؟

– إن الفساد/ الخراب المعنوي المعمّم.. والتدمير النفسي والروحي والوجداني.. وإن تكريس الانقسام المجتمعي (اقتصادياً واجتماعياً وجغرافياً.. طائفياً ومذهبياً ومناطقياً…) وإن الدعوة إلى التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية.. وإن العمل، بشكل مبرمج وممنهج، على تفكيك الدول العربية وتقسيمها، وتخريب نسيجها الاجتماعي… لهي جرائم موصوفة بحق أوطاننا ومجتمعاتنا.. وبحق الإنسان العربي والفلسطيني… لا تعادلها جرائم أخرى سوى الجرائم التي اقترفت بحق (الهنود الحمر)؛ فهي مثال في القتل البربري يشار إليه، وأنموذج تاريخي في الإبادة الوحشية الجماعية، والبناء والعيش على أنقاض البشر وجميع المفردات الإنسانية لسكان الأرض الأصليين وأصحابها الحقيقيين…

العدد 1105 - 01/5/2024