(مقالب سكابان) لموليير: ضحك صاخب لفضح النفاق الاجتماعي

عندما عُرضت مسرحية (مقالب سكابان) أو (ألاعيبه) للمرة الأولى خلال السنوات الأخيرة من حياة مؤلفها الفرنسي الكبير موليير، لم تلقَ أي نجاح، بل انصرف عنها الجمهور من فوره لاعناً ساخطاً. وقال النقاد إن ملك الهزل في المسرح الفرنسي بات خالي الوفاض، يكرر نفسه ويستعير من الآخرين. بل وصل الأمر بالناقد بوالو، إلى القول إن (المشهد الذي يختبئ فيه سكابان داخل الكيس ليس من المشاهد التي تليق بسمعة موليير)، علماً أن سكابان – الذي لعب دوره موليير نفسه -، لم يكن هو المختبئ في الكيس، بل جيرونت، ما يدل على أن ردود الفعل الساخطة على المسرحية لم تتوخَّ حتى الدقة في كلامها عنها.

باختصار، اعتبرت (مقالب سكابان) ساقطة فنياً. ولم تعرض حينذاك سوى سبع عشرة مرة طواها بعد ذلك الصمت والتجاهل. لكن، ما إن رحل موليير عن عالمنا في عام 1673، حتى (أعيد اكتشاف) هذه المسرحية وراحت تقدَّم تباعاً… علماً أن أول تقديم لها تلا موت موليير، استمر طوال 197 ليلة متواصلة، ما كان يعتبر في ذلك الحين نجاحاً ما بعده نجاح.

فما الذي حدث؟… ولماذا تعتبر (مقالب سكابان) حتى اليوم، بعد أكثر من ثلاثة قرون وربع القرن، العمل المولييري الذي يلقى القسط الأكبر من الإقبال؟ ولا يمر موسم في أية مدينة ذات مسارح في العالم إلا وتقدّم فيه هذه المسرحية المترجمة إلى عدد هائل من اللغات.

من ناحية مبدئية، ليست في (مقالب سكابان) أية أحداث أو حبكات استثنائية. وإذ كتبها موليير خلال المرحلة الأخيرة من مساره المهني، كان كثر يتوقعون منه أعمالاً تضاهي مسرحيات فترته الذهبية، مثل (البخيل) و(طرطوف) و(البورجوازي النبيل) و(المتحذلقات)، لكنه يومذاك فاجأ الجميع بمسرحية خفيفة تنتمي إلى عالم (الكوميديا ديل آرتي) الإيطالية، وتبدو كما لو أن مؤلفها كتبها عند بداياته.

ولم يكن هذا كله بعيداً من الصواب، إذ إن موليير أخذ حقاً مسرحية قديمة له عنوانها (غورجيوس في الكيس)، وأضاف إليها العديد من العناصر المستعارة، وفق ما يشرح مؤرخو حياته وعمله، من أماكن عدة، ومن أعمال مسرحيين سابقين عليه أو معاصرين له: فمن تيرانس أخذ الحبكة الأساسية لمسرحية (نورميون)، ومن (تمبارين) استعار مشهد الكيس الشهير، كما استعار من (سيرانودي برجراك)، أما بالنسبة إلى الحوار فيمكن العثور على جذور بعض أجمل العبارات والجمل في مسرحية (الأخت) للكاتب روترو. فماذا دهى موليير في حينه حتى يرتكب هذا كله؟…

صحيح أن الاستعارة والاقتباس، كانا سائدين في ذلك الحين في مسرح موليير، كما في مسارح معظم الكتاب المعاصرين له، لكن ليس إلى هذا الحد. وانطلاقاً من هنا، يشرح دارسو موليير: على رغم كل هذه الاستعارات التي تصل أحياناً إلى حدود السرقة الموصوفة، لا بد من عزو هذا العمل إلى موليير، لأنه عرف في هذه المسرحية – إذ نتمعن فيها بعد الصدمة الأولى – كيف يمزج كل العناصر، المبتكرة والمستعارة، في بوتقة واحدة، ما يجعل من هذه المسرحية (أنطولوجيا) لكل ما كان سائداً في المسرح الهزلي في ذلك الحين. وهكذا، إذا ضربنا الصفح عن الحبكة الهزيلة (التي لا يمكن تصديق تفاصيلها) – وفق ما يقول الدارسون، وحتى الجمهور الذي إذ يضحك أمام مشاهد المسرحية يخرج منها دائماً غير مصدق أن ما فيها قابل الحدوث- إذا ضربنا الصفح عن تلك الحبكة، نجد أن ما أمامنا مجرد ذريعة فنية تكاد تكون مفتعلة في شكل فاضح، لتقديم أكبر عدد ممكن من مشاهد الهزل و(لعبة لا تنضب مليئة بالابتكارات التهريجية، وبالمشاهد التي تؤديها شخصيات تليق حقاً بأروع ضروب كوميديا الشخصيات).

ومن هذا نفهم أن موليير لم يهتم هنا، لا بابتكار الحبكة ولا بصدقية المواقف. كان ما يهمه أكثر من أي أمر آخر، أن يقدم شخصيات ويحبك سماتها بحيث تثير في مجموعها أكبر قدر من رد الفعل لدى الجمهور… لكن ليس لمجرد الإضحاك، بل أهم من هذا، وهنا بيت القصيد بالنسبة إليه: كان موليير يتوخى مرة أخرى، أن يفضح الزيف الاجتماعي، مغرقاً عمله في هزل ينجيه من أن تنظر السلطات إلى المسرحية نظرة جدية توقعه في متاعب تشبه تلك التي أوقعته فيها أعمال أكثر جدية – وأقل إضحاكاً – مثل (طرطوف). وفي مطلق الأحوال، تبدو فرضية (التحايل على الرقابة)، هنا منطقية، وتبرر ضعف الحبكة وسذاجة الأحداث والعلاقات، كمدخل لرسم الأخلاق. والحال أن رسم الأخلاق من وجهة نظر يائسة من إصلاح المجتمع، لا سيما طبقاته الصاعدة، كان واحداً من هموم موليير في آخر سنوات حياته.

تدور مسرحية (مقالب سكابان) حول الشابين أوكتاف ولياندر، وهما ابنان لاثنين من أصحاب المكانة والثراء. الأول أوكتاف ينتهز فرصة غياب أبيه عن المدينة لكي يتزوج من حبيبته هياسنت، الحسناء ذات الأصل المجهول والتي لا تتمتع بأي حسب ونسب. والثاني يريد الزواج، أيضاً، من حبيبته الحسناء الغجرية زربينات. لكن في تلك الأثناء، يكون الوالدان قد عادا. وتكون البداية مع آرغانت، والد أوكتاف الذي كان آلى على نفسه، منذ زمن، أن يزوج ابنه من ابنة جيرونت، والد لياندر، لذلك نراه يسعى من فوره إلى تدمير زواج ابنه من هياسنت. وكذلك يغضب جيرونت من رغبة ابنه لياندر الزواج من زربينات، ويمنعه من أن يفكر – مجرد تفكير – في ذلك. لياندر لا يأبه، بالطبع، لموقف أبيه، لكنه يواجه مشكلة: فزربينات التي كانت اختطفت، منذ طفولتها على يد مجموعة من الغجر، يتطلّب تحريرها دفع فدية مالية ضخمة لهؤلاء. ولما كان لياندر وصاحبه مفلسين، كان لا بد لهما من أن يلجأا إلى الخادم سكابان المعروف بحيله وذكائه ومقدرته على رسم المقالب.

وبالطبع يستجيب سكابان لنداء الاستغاثة الذي يوجّهه الشابان إليه، مشترطاً عليهما أن يخوضا حتى النهاية اللعبة التي سيرسمها لكي يخدع الأبوين ويدفعهما إلى القبول بالأمر الواقع. ويبدأ سكابان بتنفيذ خطته التي توصله في النهاية إلى الحصول على المال اللازم من الأبوين البخيلين: فهو يزعم أمام والد أوكتاف أنه في حاجة إلى مبلغ من المال يكفي لإلغاء زواجه بهياسنت. أما أمام والد لياندر، فتكون خطته أكثر تعقيداً، إذ إنه يدفع خادماً آخر يعرفه إلى التنكر في زي تركي عنيف، مدعياً أن أتراكاً خطفوا لياندر ونقلوه إلى سفينة لهم تمخر عباب البحر، وأنه في حاجة إلى مبلغ من المال يمكنه من افتدائه.

غير أن الوالدين سرعان ما يكشفان لعبة سكابان، وإذ يشرعان في معاقبته تنكشف أمامهما حقائق أكثر (أهمية) بكثير: ذلك أن جيرونت، والد لياندر، يكتشف أن هياسنت ليست في الحقيقة سوى ابنته من زواج ثان عقده ولم يعرف، يومذاك، عن مآلها شيئاً. وفي الوقت نفسه يكتشف آرغانت، والد أوكتاف، أن زربينات الغجرية، ليست في الحقيقة سوى ابنته الطفلة التي كان قوم من الغجر قد خطفوها وخُيِّل إليه أنه فقدها إلى الأبد. وهكذا إذ يكتشف الوالدان هذه الحقائق غير المتوقعة، لا يعود ثمة في الأمر ما يعترض زواج أوكتاف ولياندر من حبيبتيهما. أما سكابان، البطل الحقيقي للمسرحية، وللمقالب، فإنه يسامح إلى حد ما، فيما تكون الاستعدادات قائمة للأفراح.

إذاً، انطلاقاً من هذه الحبكة الساذجة، بنى موليير (وهو الاسم المستعار للفرنسي جان – باتيست بوكلان: 1622 – 1673) هذه المسرحية التي تحمل الرقم 30 في سلسلة أعماله المسرحية البالغ عددها 33 مسرحية، كتبها خلال مسار مهني تواصل نحو ثلاثين عاماً. ونعرف اليوم، أن (مقالب سكابان) هي المسرحية التي تقدم باستمرار وتواصل من دون أعمال موليير كافة، إذا استثنينا (طرطوف) و(البوزجواري النبيل). وهو أمر لم يكن موليير نفسه يتوقعه، وهو يكتبها، خصوصاً أن قلمه ومساره المسرحي، كانا أنتجا بعض الروائع الأكثر واقعية وتركيبية وحضوراً، خلال سنوات كان فيها سيد المسرح الفرنسي من دون منازع.

عن (الحياة)

العدد 1107 - 22/5/2024