لينين وثورة شعوب الشرق

 كان لينين مدركاً تماماً للفارق الحضاري الكبير بين التركيبة الطبقية للمجتمعات الشرقية المتخلفة، والتركيبة الطبقية للمجتمعات الصناعية الغربية، وكذلك الطبيعة المختلفة للقوى اللاجمة للتطور الاجتماعي في كلا التركيبتين، وبالتالي للمهام الثورية المختلفة، حين قرأ تقريره إلى المنظمات الشيوعية لشعوب الشرق في المؤتمر الثاني لعموم روسيا عام ،1919 وتأتي ضرورة وأهمية العودة إلى نحو قرن مضى على ذلك التقرير لسببين أساسيين، أولهما عودة الاستعمار بأقصى همجيته وأدواته التي جاء بها كجحافل هوجاء من ما قبل العصور الوسطى، وثانيهما للضمانة الفكرية المناعية التي حصّنت وعي الشيوعيين الوطنيين فعالجوا المسائل المطروحة في ظرف استثنائي بأعلى ما يمكن من المسؤولية الوطنية والطبقية، ولم ينجرّوا وراء وَهْمٍ ثوريّ مضاد، مصطنع أخرجته مراكز الدراسات والأبحاث المخابراتية الأمريكية، والحالة السورية 2011 إحدى أكثر حلقاته دموية.

لقد وضع لينين على رأس القوى اللاجمة لتطور المجتمعات الشرقية الاستعمار الذي نسج داخل مستعمراته طبقة شائخة من مكرّسي وجوده وتجديد إنتاج هذا الوجود بالمحافظة على إبقاء شعوب الشرق المنهوبة في حالة من العجز تضمنها الأسطورة الإلهية، فهي التي منحت السلطان المال والجاه والسلطة، وهي التي حرمت طبقة الكادحين منها وسخرتهم لخدمته ولا اعتراض على مشيئة الله،

ففي بلاد الشام على سبيل المثال كان النموذج الطبقي العثماني الذي حافظ على جوهره الاستعمار الفرنسي أيضاً مستبدلا بالسلطان جنرالاته، متكوناً من الطبقة العليا الأولى السلطان وحاشيته، رجال الدولة، الإقطاعيين، تمارس التسلط والاستبداد والقهر على الطبقة الدنيا الأخيرة المتكونة من الفلاحين والعاملين بأجر يومهم والجنود وباقي فئات الشعب المعدمة من الفقر،وهي طبقة خاضعة مشلولة وصفها التقرير بأنها عاجزة عن تشكيل قوة ثورية مستقلة لأنها خارج إطار التطور التاريخي، وبين الطبقتين نشأت في المراحل الأخيرة من عمر السلطنة طبقة وسطى كبرجوازية صغيرة تكونت من المثقفين ومعلمي المدارس وأصحاب الحوانيت والخانات والموظفين وشيوخ المساجد وبعض زعامات الأقليات الدينية والعرقية، ودخلت بعض فئات تلك البرجوازية الصغيرة التي لم تنشأ في السوق في صراع تناحري مع البرجوازية المسيطرة وتشكلت لديها بذور نزعة قومية تقدمية تعمل للانتقال بالمجتمع من مجتمع ديني قبلي إلى مجتمع مدني حديث (بطرس البستاني، إبرهيم وناصيف اليازجي ونجيب غزاوي وبعض شهداء 6 أيار)

بينما كان مفكرو التيار الإسلامي المحافظ (الأفغاني، محمد عبدو، رشيد رضا) وغيرهم يرون في السلطان وجوره وعسفه المثل الأعلى والأبرز والحل للمشاكل الاجتماعية التي تواجه العالم الإسلامي، (راجع كتاب حداثة العرب وعرب الحداثة -محمد علي جمعة) فالصراع لم يكن مصنعياً، كان صراعاً بين الاستعمار والبنية التراثية السلطوية المحافظة اللاجمة للتطور التابعة له من جهة، والقوى القومية التقدمية الناهضة من جهة ثانية، وهو ما أوجزه لينين كمهام للرفاق الرواد بالنضال لا ضد الرأس مال بل ضد بقايا ومخلفاتها العصور الوسطى، رابطاً بين النضالين الطبقي والوطني ومستنداً إلى يقظة الشعور القومي لدى البرجوازية الصغيرة باعتبار ذلك مبرراً تاريخياً، نظراً لعجز طبقة الكادحين المهضومة الحقوق والمعتادة على الاتكالية المطلقة، والتي تعتبر بنظر المدنية الرأسمالية مجرد سماد ووسيلة إثراء، مما يوجب على الرفاق تنشيط روحها الثورية وتعريفها على حقوقها ودفعها إلى التنظيم والعمل السياسي لتتحول إلى شريكة في النضال العام لتقرير مصائر العالم ولتكون جماهير صانعة للتاريخ، وهي المهمة التي أشار إليها التقرير بوصفها عسيرة ومعقدة وذات سموّ خارق ولم يسبق أن واجهت الشيوعيين من قبل.

في تلك الأجواء ولد التيار الماركسي في بلاد الشام في نهاية الربع الأول من القرن الماضي وبنت الأحزاب الشيوعية العربية برامجها السياسية وتحالفاتها مع البرجوازية القومية الصغيرة على أساسها، وخاض الرفاق الرواد نضالاً قاسياً في دروب محفوفة بشتى أشكال المخاطر وتحدّوا الموت والجوع والحرمان والقهر والتعذيب والزنازين والغدر، لكنهم أنجزوا، بحماس منقطع النظير مهامهم في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، حسب التقسيم الوارد في كتاب (الحركة الشيوعية السورية – الصعود والهبوط) للمؤرخ عبدالله حنا وحققوا نهوضاً كبيراً فكانوا أعمدة المجتمع المدني الحديث وهم وحلفاؤهم من وضعوا أسسه، وكانت التأثيرات واضحة على الوعي الشعبي الذي أصبح وعياً وطنياً تنويرياً متحرراً من العلاقات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية ومناهضاً للاستعمار والإمبريالية حسب وصف المؤرخ الذي تحدث أيضاً عن الطابع التنموي لمرحلة ما بعد الاستقلال الوطني في سورية 1945 والسير في طريق التصنيع والإصلاح الزراعي، وتعاظم دور الدولة بصفتها الحديثة واتساع دائرة الولاءات الوطنية التي أسقطت بفضلها كل الأحلاف الاستعمارية والمؤامرات، وتوحد النسيج الاجتماعي السوري حولها، ورجحت كفة العقلانية في مرحلة تسيّدتها الأحزاب القومية والماركسية.

***

 إن جملة من العوامل الذاتية والموضوعية أحبطت حركة صعود الأحزاب القومية والماركسية في غمرة انحسار دولي عام لحركات التحرر الوطني تفاقم في الربع الأخير من القرن العشرين واستفحل ذلك بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتشار وباء الأمركة العالمي الذي شوه التاريخ وقلب المفاهيم والحقائق، فصورة الصعود التي عايشها جيلنا لم يتسنَّ للأجيال الشابة الحالية أن تعرف عنها من إعلام موجه أصبح الوسيلة اللبرالية المتوحشة الأشد فتكاً بوعي الشعوب سوى معلومات مضللة اختصرت لينين المفكر الثوري الكبير محرّر شعوب الشرق إلى (قاتل) لعائلة القيصر (البريئة)، واختزلت والاشتراكية عموما بما قدمته للشعوب من قيم العدالة الاجتماعية إلى مجرد (وهم طوباوي رجعي).

مع الأسف فإن بين من طالهم غسيل الدماغ هذا بعض أبناء طبقة الكادحين التي صعد بها الفكر الماركسي اللينيني إلى أعلى السلم الاجتماعي لدى تحول فئة من البرجوازية الصغيرة الحليفة التي تبنت قضية الكادحين سابقاً واعتمدت على طاقاتهم في صعودها إلى برجوازية طفيلية كبيرة تناقضت مصالحها مع مصالحهم، فقضت على الطبقة الوسطى وأصبحت لاجمة للتطور بسبب الشلل السياسي الناجم عن ذلك، وراحت تحتمي بعلاقات كولونيالية جديدة مع تناقضاتها التناحرية المهددة للأمن والاستقرار الاجتماعي الداخلي الذي سرعان ما تسربت إليه أفعى الأصولية التي لا تعيش إلا في ظلام مجتمع الجهل والتخلف، المجتمع الراجع الذي خلفه الفشل في استكمال مشروع التحديث وبناء الدولة المدنية.

لكن تناقضات الطبقة الطفيلية ما بين علاقاتها الكولونيالية وحفاظها على السيادة الوطنية وبين مصالحها الشخصية ومصالح الفئات الشعبية لم تكن قد وصلت حد الانفجار الثوري حين فشلت تلك العلاقات في تأمين الحماية لهذه الطبقة من الجموح العدواني الأمريكي الذي يطالب دول العالم كفة بالطاعة الكاملة، فلا مجال في زمن العولمة الأمريكية الحديث لعوامل ذاتية بمعزل عن السياق العالمي والطبيعة الاقتحامية لهذه العولمة المتوحشة وخرقها العلني غير المسبوق للقانون الدولي وحقوق الدول ذات السيادة في عالم خالٍ من القانون يضيّق خارجياً وداخلياً على الدور الاجتماعي لقوى التقدم والتغيير ويخنقها، ليُحِلّ أدواته الأكثر شيخوخة ورجعية من مخلفات ما قبل العصور الوسطى محلها لتحريك الشوارع بنباح (ثوري) أحمق واستغلال وعي جماهير مهمشة وتائهة وصل اغترابها إلى حد استقبال السفير الأمريكي بالزهور ومدى الغفلة والخبل في أن يهدي القتيل قاتله ورودا وهو يحتضر تحت ضرباته. فهل عدنا إلى نقطة الصفر في محاولة نضالية جديدة لايقاظ وعي شعبنا من جديد؟ ما العمل امام هذا الخليط الفوضوي بين الحقوق المدنية المنتهكة داخلياً وحقوق الدول المنتهكة من الخارج؟

إن مهمة مواجهة عودة الاستعمار بشكله الحربائي الجديد هي المهمة الأكثر سمواً وثورية وتعقيداً من تلك الواردة في تقرير لينين المذكور قبل نحو قرن، مطروحة أمام الشيوعيين الوطنيين الذين فشل القمع والإقصاء كما فشلت العولمة الأمريكية في خرق أولوياتهم النضالية أو مناعة إرثهم الماركسي اللينيني رغم هذا المنعطف التاريخي السحيق والذي يتطلب تطوير التحالفات وتوسيع أشكاله ونوعيتها والأساليب المبتكرة للدفاع عن الوطن والمواطن ومكافحة الإرهاب عسكرياً وثقافياً وسياسياً وإعادة إنتاج مفهوم الثورة التحررية الجديدة التي يتلازم فيها النضالان الوطني والطبقي بما يتناسب مع الظرف التاريخي الاستثنائي وشراسة الهجمة وخبثها وحجم الكارثة الوطنية، وفي الوقت نفسه مكافحة الفساد وضمان حرية المواطن وكرامته وحقوقه في دولة مدنية علمانية تقدمية قائمة على العدالة الاجتماعية.

العدد 1105 - 01/5/2024