عن جماليات الكتابة العابرة للأجناس

لعل طموح الكتابة بانفتاح دلالتها ولا سيما في حقولها الأثيرة قصة أو رواية أو نصاً نثرياً، أن تذهب إلى التراسل مع غير جنس إبداعي وفي مستوى آخر لعل طموحها الكبير أن تتماهى مع الفنون البصرية والتشكيلية وسواها، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، تُرى أية مغامرة هذه هي التي تفتح النص الإبداعي على سواه المختلف وفي حيز مقصود، أي من التماثل إلى الاختلاف، أو التماهي، ونضيف هل انتهى زمن النص الصافي وولى إلى غير رجعة، أم أنه يحتاج حقاً تأويلاً جديداً؟.

ليست الإشكالية هنا في ذلك الطموح،والذي يجعل مقولة الاختراق صالحة إلى حد ما، أي أننا نستدعي تلك الفنون الأخرى ليس من أجل ترصيع النص وتزيينه، ذلك أن النصوص الأخرى العابرة للنص، هي نصوص مرجعيات محكومة بسياقاتها الثقافية وبأنساقها وبمضمراتها، بل في الخشية من تداخل السياقات والتفريط بخصوصية النصوص الإبداعية، والذي يحتاج من المبدع وعياً بما يكتب وإدراكاً بأن ثمة قصد لنصه قبل أن يكون قصده هو، وهذا القصد -قصدية النص- هو الذي يمكن من عملية الانفتاح الحقيقي للنصوص على سواها بالمعنى الحواري والتثاقفي المنتج للغة بوصفها كائناً لغوياً متعدداً وثرياً بالتدفق والخصوبة، وما مقولتي النص المفتوح والنص المغلق، اللتان حملهما الخطاب النقدي ومنها مساهمة الناقد والروائي الإيطالي (إمبرتو إيكو)، والذي ذهب بعيداً في توضيح تلك المقولات، ولا سيما مقولة النص المغلق الذي يحتاج إلى التأويل، والكشف أكثر من النص المفتوح، الذي يريد أن يقول كل شيء، وبذات الوقت قد لا يقول شيء، سوى إحدى علامات ذلك التحدي للنص المخترق، والذي غالباً ما يقاربه النقد ليقف على مكوناته البنائية والدلالية، وبخصوصية امتصاصه للنصوص السابقة عليه والعابرة فيه، حتى تكون إطروحة تلك النصوص التي توسم كذلك، وفي الفضاء الثقافي العربي على وجه الخصوص ناجزة، ولعلها تقدم للدرس النقدي غير فائدة، وذلك عبر استراتيجياته المفترضة لمقاربة أفعال الإبداع، بوصفها أفعالاً في التجاوز والاختلاف واللغة الثرية.

وإذا ما ذهبنا إلى أمثلة في القصة أو في المجموعات القصصية التي كتبها القاص والروائي الراحل إدوارد خراط،  وعلى سبيل المثال (رقرقات الزمن الملحي، ترابها زعفران، حيطانها عالية)، لوقفنا على مناخات التجريب المنتجة والتي تقود مغامرة الكتابة إلى أكثر من ذروة جمالية/ معرفية، إذ أنه جعل للغته انفتاحاً دلالياً، باستدخاله المشهدية ومعايرته للشعرية داخل النص القصصي، ليرتقي باللغة إلى آفاق من تأويل مفتوح، يستدعي الكتابة كمغامرة أصيلة وبذات الوقت يستدعي حوافز القراءة، لتكون قراءة في المرجعيات المؤسسة للمعنى، إذ أن التداخل النصوصي/ الحواري هنا تحكمه رؤيا الكاتب المبدع القائمة أصلاً على أفعلا اكتشاف اللغة لذاتها، وإنتاجها للمعنى في المشترك الجمعي الجمالي، خصوصاً لجهة تأثيث الروح بممكنات لغة قادرة على إشاعة الإحساس الفطري بالكتابة، ليس بوصفها متخيلاً فحسب، بل بوصفها أسلوب حياة، نتنفس من خلالها ونتبادل معها أفعال الحياة، لتغدو الكتابة هنا بأكوانها الجديدة، هي كتابة المقترحات الجمالية على اتساع دلالة هذه الجمالية بوصفها مشروع ورؤية أكثر من كونها توصيفاً عابراً ومجانياً.

لكن الأمثلة الكثيرة نجدها فيما قد نصطلح على تسميته (بالتجريبية) التي يفيض بها الإبداع بأطيافه ونزعاته، على الرغم من أن تعبير التجريبية هو تعبير ملتبس أحياناً ويحتاج لدقة منهجية حتى تأخذ الأمور مسمياتها الأكثر قرباً من الواقع والتداول، وحقيقة ما يغذي ذلك الطموح -النص المخترق- وهو مشروع بحق، هو مسائلة مرجعية الكاتب في دمقرطة ثقافتها وقدرتها على أن تحمل تعددية في أصواتها، لا تلغي الخصوصية بقدر ما تنفتح على الآخر، أي المشترك الإبداعي داخل الجنس الإبداعي بوصفه الآخر هنا، وذلك ما ينتج نصوصاً قادرة على محايثة الحياة، وليس محاكاة للعدم دون جدوى، وذلك أيضاً رهن بانفتاح الخطابين الإبداعي والنقدي، على ثقافة متجددة تتكامل بها الأدوار دون أن تتماثل بالضرورة.

العدد 1104 - 24/4/2024