حركة ما بعد الحداثة والمستقبل (1من2)

 يمر العالم الآن بمرحلة تتميز في رأي الكثيرين بتفكك النظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى في كثير من مجالات المعرفة، بل وفي المبادئ والمسلمات والمعتقدات الأساسية التي يرتكز عليها التفكير البشري. لقد ازدادت حركات العنف والإرهاب زيادة واضحة تنم عن مدى خطورة هذا التفكك في القيم المتوارثة، وهذه كلها عناصر تميز ما أصبح يطلق عليه اسم عصر ما بعد الحداثة، الذي يمثل نوعاً من التمرد والرفض باعتبارها أنساقاً جامدة لا تتلاءم مع التغييرات المتسارعة، التي يمر بها عالم اليوم.

ويعتبر ظهور هذا الاتجاه علامة مميزة على بدء عصر فكري جديد يختلف كل الاختلاف عن عصر الحداثة، التي اندثرت أو (ماتت) حسب ما يقول البعض. ويحمل هذا العصر الجديد ثورة ،اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية متحررة تماماً من كل قيود الماضي، التي كانت تخضع الإنسان لكثير من عوامل الكبت والقهر، وإن كان هذا (الماضي) يبدي بالرغم من ذلك بعض الاهتمام بالمستقبل وتوقعاته وإرهاصاته، وسواء أردنا أو لم نرد، فإن ما بعد الحداثة تعتبر الآن أحد أهم التيارات الفكرية أو الفلسفية، التي يمكن لنا في رأي أتباعها وأنصارها أن نفهم في ضوئها بشكل أفضل طبيعة العصر، الذي نعيش فيه والمستقبل، الذي سوف يتطور إليه، أي أن معرفة المبادئ والقيم التي تقوم عليها ما بعد الحداثة هي المفتاح، الذي يؤدي إلى استشراف مستقبل العالم على الرغم من أن هذه القيم لم تتحدد بعد، بل وقد يصعب تحديدها بدقة في الوقت الراهن، خاصة أن الآراء لم تتفق بعد على تعريف واحد لما بعد الحداثة، وهل هي حركة؟ كما يرى الكثيرون- أم تيار فكري أم مذهب فلسفي؟ وإن كان الكثيرون يرون أنها مجرد حركة فكرية لن تلبث أن تزول، شأنها في ذلك شأن كثير من الحركات التي سارع بعض الكتاب والمفكرين إلى اعتناقها والتحمس لها، إلى أن ظهر تهافتها وزيفها.

من التنوير إلى الحداثة

 المهم الآن هو أن ما بعد الحداثة تمثل اتجاهاً قوياً يدعو إلى تحرير الإنسان من الأفكار والاتجاهات والقيم السابقة، بل ومن دعاوى العقلانية والتمركز حول الذات والمبادئ التي كانت تسود العالم منذ عصر التنوير في أوربا في القرن الثامن عشر، والتي تزعم ما بعد الحداثة أنها في طريقها إلى الزوال والاندثار، بعد أن استنفدت أغراضها وتعداها الزمن وتجاوزتها الأوضاع المتغيرة الحديثة. فالقيم التي نادى بها عصر التنوير، والتي تسود الحياة الفكرية الآن، تؤمن بوجود حقيقة موضوعية تتسامى فوق الأشخاص وآرائهم وأهوائهم، وبأن التفكير المحايد غير المنحاز وغير المتحيز، والذي يعتمد على المنهج العلمي التجريبي هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة الموضوعية، كما أنه هو الطريق الوحيد، الذي يؤدي إلى التقدم، مما يعني أن المستقبل سيكون أفضل وأكثر حرية وازدهاراً وسعادة من عالم اليوم ومن الأمس.

وقد ساعد على ترسيخ هذه الدعاوى ثورات الشعوب في الماضي والحاضر، ويستوي في ذلك الثورات الكبرى والانتفاضات الشعبية المحدودة. وتعلي فلسفة التنوير من شأن القيم الفردية، التي تميز الفرد عن الجماعة العرقية أو الدينية، التي ينتمي إليها بحكم المولد، والتي تدفع إلى التعصب. إنها قيم تحقق للفرد مكانته وكرامته وتميزه وتفرده من الجماعة وعن غيره من الأفراد. ولكن على الرغم من ذلك، فإن العقلية العلمية تستطيع من خلال دراستها للتنوع البشري والفوارق بين الأفراد، أن تصل إلى تحديد العناصر العامة والمشتركة والكامنة وراء هذا التنوع والاختلاف، وإلى العامل الإنساني المشترك، الذي يوحد بين الجميع. وهذه العناصر العامة المشتركة هي الأساس، الذي ترتكز عليه مبادئ المساواة في الحقوق. فالعقلانية والموضوعية والفردية والعمومية الشاملة تعتبر إذاً أهم القيم والمبادئ التي تحكم المجتمع البشري، وتوجهه حسب التفكير السائد في عصر التنوير، والممتد حتى الآن فيما يعرف باسم (الحداثة).

ما بعد الحداثة تبدأ إذاً من التشكك أو عدم الوثوق في كل تلك المبادئ العامة والأسس الكلية والشاملة، التي سادت عصر التنوير ووجهت الفكر الحديث. كما أنها ترفض التسليم بوجود مجموعة المبادئ والمعتقدات والمسميات الفكرية العامة، التي يمكن لها أن تسيطر على الفكر الإنساني، فكأن ما بعد الحداثة تنظر إلى كل هذه الأمور على أنها مظاهر بائدة تنتمي إلى الماضي ولم تعد تصلح للمرحلة الجديدة، التي يمر بها عالم اليوم والغد، والتي لها دعاواها وافتراضاتها الخاصة. وإذا كان بعض المفكرين المعاصرين- وبخاصة الإنسانيين- يرون في تلك القيم والقواعد والمبادئ المتوارثة، مبادرة خير بالنسبة للمستقبل، فإن ما بعد الحداثة ترى أن الاعتماد على العقل (السليم) والتفكير (المنطقي) والعلم والموضوعية والفردية والعمومية الكلية الشاملة لم تؤدّ إلا إلى الاغتراب، وسيطرة قيم البيروقراطية الطاحنة وظهور (عالم من الخبراء) الذين يرون أن القوة توحد في كل شيء إلا في الإنسان الفرد، وأنها انتهت إلى قيام أشكال وصور عديدة من الكبت والقهر والتسلط، التي تمثلها الرأسمالية، والتي أتاحت الفرصة لظهور الشمولية والنازية بكل ما ارتكبتاه من جرائم ضد الجنس البشري، والعمل على إبادته والقضاء على فصائل معينة من الناس.

فالتمسك بالموضوعية والبحث عن المعرفة الموضوعية يؤديان في آخر الأمر إلى الظن بأن الحقيقة توجد خارج الفرد، بكل ما قد يترتب على ذلك من انعدام ثقة الإنسان في نفسه، والشك في قواه وقدراته وإمكانياته الذاتية، وذلك بعكس ما سوف يترتب على المبادئ، التي تنادي بها ما بعد الحداثة، من عدم وجود حقيقة موضوعية في الخارج تستحق عناء البحث عنها والتمسك بها. إذاً، من شأن هذه الأفكار ازدهار الذاتية والاعتزاز بها على حساب الموضوعية، مما يعيد للفرد ثقته في نفسه وفي قدراته، كما أن عدم الاعتراف بوجود مثل هذه الحقيقة الموضوعية من شأنه إمكان إخضاع كل الأفكار والآراء للتساؤل والشك، فليست هناك أفكار مجردة، كما أن كل القيم والمثل والمبادئ المتوارثة هي مجرد أقنعة تخفي وراءها أهدافاً أخرى من شأنها مساعدة الذين يملكون القوة (الإنسان الأبيض أي الغرب، الذي يمارس الغزو، والاستعمار والتمييز العنصري، وإبادة الجنس البشري، والتحرر الجنسي وغيرها) على التمكن والتحكم والتسلط.

وبقول آخر أكثر وضوحاً، فإنه بدلاً من الموضوعية تدعو ما بعد الحداثة إلى الذاتية، وبدلاً من الإيمان بالتقدم فإنها تشكك في إمكان تحقيق هذا التقدم، وبدلاً من الإيمان بالأخلاق ترى أن كل شيء يخضع للذوق والمفاضلة والاختيار الشخصي، وبدلاً من البحث عن العموميات تهتم بما هو خاص وشخصي وهكذا. وباختصار فإن ما بعد الحداثة تذهب إلى التشكك في الصدق واليقين وتهتم بقيم التجربة الذاتية، وترى أن إمكانات الاتحاد والتعاون والتجمع والتكافل هي أمور نادرة الحدوث وصعبة التحقيق، بل إنها دعاوى مراوغة. كما ترى أن من الصعب قيام حكومات ديمقراطية صالحة وعادلة، وتستجيب لمصالح الشعوب. وإذا كان الفيلسوف الألماني ف.نيتشه الذي يعتبر أحد رواد الدعوة الأوائل إلى ما بعد الحداثة، قد ذهب إلى القول بموت الإله، فإنه لم يلبث أن قال بموت العلم والعقل والأخلاق، وأن المشروع العلمي في القرن التاسع عشر قد سلب الإنسان المعاصر قواه وملكاته، وأن من شأن الأخلاق أن تجعل الإنسان مخلوقاً عاجزاً عن إدارة نفسه بنفسه، ولذا فإنه كان يفضل الإنسان (غير المتحضر) على الإنسان المتحضر المتقدم، لأنه يتصرف حسب ما تمليه عليه طبيعته، وكيفما شاء دون أن يؤنبه ضميره على ما يفعل.

العدد 1104 - 24/4/2024