ثورة أكتوبر وأهميتها التاريخية

 في 7 تشرين الثاني حلّت الذكرى الـ99 لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، التي أحدثت دوياً عظيماً في العالم أجمع في بداية القرن العشرين، وكانت مجال دراسات وأبحاث ونقاشات قلما تعرضت ثورة في التاريخ لمثل ذلك، وخصوصاً أنها أعلنت منذ البداية أن أهدافها الأساسية هي تحقيق العدالة لأناس العمل، وبناء نظام خال من الاستغلال والاستثمار هو الاشتراكية.

ولكن، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان نتيجة هذه الثورة، وانهيار منظومته، ازداد النقاش والجدل عالمياً حولها، وحول أهميتها التاريخية، وظهرت آراء كثيرة، بعضها استمر بالقول إن أكتوبر قد شكلت انعطافاً تاريخياً كبيراً في مسيرة التطور الإنساني، وإنها كانت بداية عبرت عن مرحلة تاريخية جديدة هي مرحلة سقوط الرأسمالية، وقيام تشكيلة اجتماعية أكثر رقيّاً، وهي الاشتراكية، مرحلة دشنت عصر انهيار النظام الكولونيالي وتحرر الشعوب، ومرحلة تقرير المصير، والانبعاث القومي والوطني للشعوب المستعمرة سابقاً.

والبعض الآخر أخذ يقول بأن ثورة أكتوبر ماهي سوى مغامرة سياسية استندت إلى مزاج جماهيري آني لأجل وصول حزب البلاشفة إلى السلطة، وإن ما ينتج عن هذه الثورة هو نظام شمولي دكتاتوري، ألحق أضراراً كبيرة بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لروسيا وللبلدان التي انضوت تحت لوائها، ويتابع هؤلاء فيقولون بأن انهيار النظام الكولونيالي يعود السبب الرئيسي فيه إلى تكون أقطاب متصارعة أوجد كوة استطاعت الشعوب المستعمرة من خلالها الخروج من نير الاستعمار، ولكنها لم تستطع الخروج من نير الاستعمار الجديد، ويؤكد آخرون أن هذه الثورة لم تكن ثورة اشتراكية بالمعنى الحقيقي للكلمة، على الرغم من كل الشعارات التي رفعتها، والتي نادت بها، ولم تُحدث انعطافاً عالمياً في المال الاجتماعي، بل كانت حركة احتجاجية ضد القيصرية، وضد الاستغلال الرأسمالي والإقطاعي، وضد الحرب من جهة ثانية، إذ لم تكن الظروف ناضجة ومتوفرة للتحول الاجتماعي الجذري، لا في روسيا ولا في البلدان التي انضوت تحت لوائها، وبمعنى آخر، إن أنصار هذا الرأي يقولون، بأن النتائج الفعلية لهذه الثورة، لم تؤدِّ إلى بناء الاشتراكية، وإنما أدت إلى رأسمالية الدولية من خلال تحكّمها تحكماً كاملاً بالعملية الإنتاجية، ونشوء نظام بيروقراطي، استحوذ على القيمة الإضافية، لقد صبّت نتائج هذه الثورة بالدرجة الأولى في خدمة مصالح المجمّع العسكري الصناعي الناشئ لمواجهة الأقطاب العالمية الأخرى والدفاع عن المصالح الإمبراطورية لروسيا.

وبرأي العديد من رجال التاريخ، ويحوي كل من هذه الآراء المتباينة شيئاً من الحقيقة، رغم اختلافها حول طبيعة هذه الثورة وأثرها على تطور روسيا من جميع النواحي، وعلى التغيرات العالمية التي حدثت بتأثيراتها. ويقر الكثير من التاريخيين والمختصين بعلم الاجتماع، أن لينين كان محقاً، وخصوصاً فيما يتعلق باستنتاجاته وملاحظاته حول انتهاء مرحلة التنافس الحر للرأسمالية، وانتقالها أي الرأسمالية إلى مرحلة أخرى هي مرحلة الاحتكار، مرحلة الإمبريالية، من خلال عملية تمركز وتركز الرأس مال، وتصديره، ومن خلال اندماج الرأس مال المالي والصناعي، وظهور الطغم المالية، بيد أن تصوره حول انهيار الرأسمالية السريع بعد بلوغها مرحلة الاحتكار لم يكن محقاً، كما أنه لم يكن محقاً فيما يتعلق بتصوره حول إمكانية بناء الاشتراكية في ظل مستوى تطور منخفض للقوى المنتجة، إن النظام الاشتراكي كما صرح ماركس يقوم على مستوى تطور عال جداً لهذه القوى. من هذا المنطق يصل البعض إلى أن الصيرورة التي آل إليها النظام السوفيتي كانت حتمية، إذ كان يحمل في داخله عوامل انهياره.

يناقش علماء التاريخ مختلف الطروحات التي تحدثنا عنها أعلاه من منطلقات مختلفة، فالذين ينطلقون من نظرية  المغامرة يركزون بالدرجة الأولى على فشلها اللاحق، ولكن إذا انطلقنا من فكرة الفشل لتثبيت فكرة المغامرة، لكانت كل الثورات السابقة التي قامت، والتي فشلت أيضاً، ما هي إلا عبارة عن مغامرات لا أكثر ولا أقل، إن طرح فكرة المغامرة يؤدي إلى نفي الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للثورات التي حدثت عبر التاريخ، والتي فشلت أيضاً، بيد أنها لم تذهب أدراج الرياح، وإنما أدت إلى دفع عملية التطور الاجتماعي إلى الأمام.

من هنا يصل البعض من المفكرين إلى الرأي الثالث، الذي يقول إن ثورة أكتوبر كانت تعبر عن طموح الجماهير الشعبية إلى العدالة، وبالتالي يمكن اعتبارها من المنظور التاريخي حركة احتجاجية عميقة موجهة ضد النظام الرأسمالي، شأنها في ذلك شأن كل الحركات الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي الموجه ضد الظلم عبر التاريخ، إلا أن التطور اللاحق الذي جرى، كان لا يمكن إلا أن يكون غير متفق مع طموحات هذه الجماهير التي صنعت هذه الثورة، أي أنها لم تحقق الاشتراكية، ولم تحدث انعطافاً عالمياً، جذرياً، يؤكد آخرون، أن التحول الاجتماعي العميق لا يمكن أن يكون مرهوناً باستلام حزب السلطة، لأن التغيير الجذري في المجتمع ليس مرتبطاً باستلامه السلطة، بمقدار ما هو مرتبط بنضج الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التغيير، ويرتبط بمستوى تطور القوى المنتجة، ومقدار توافقها أو عدم توافقها مع علاقات الإنتاج، ولذلك فإن الانطلاق من أن بناء الاشتراكية يقع على عاتق الحزب هي فكرة خاطئة، لأنها لو وافقنا على هذا الرأي، لكان يجب القبول بفكرة المغامرة، لأن بناء الاشتراكية لم يتم، وما حدث هو إجهاض للفكر الاشتراكي وللاشتراكية لا في الاتحاد السوفيتي فقط، وإنما على النطاق العالمي.

أما إذا تم الانطلاق كما يقول البعض من أن نتائج هذه الثورة لم تؤد إلا إلى تغيير النظام السياسي وليس الاجتماعي، فلن تكون هناك أية مغامرة. إن أنصار هذا الاتجاه يؤكدون أن نجاح حزب البلاشفة في استلام السلطة كان تغييراً للنظام السياسي بالدرجة الأولى، وكان انقلاباً عسكرياً جرى  في مدينة بطرسبورغ أولاً، واستثمره بمهارة قائد متمرس وذكي جداً هو لينين، فهم اللحظة الراهنة بعمق، وفهم رغبة الشعب الكادح بإحداث تغيير عاصف في المجتمع الروسي، أي أنه فهم بعمق ما تريده وترغب به الأكثرية الساحقة من الكادحين، الفلاحون كانوا يرغبون في الحصول على الأرض، والعمال الذين كانوا يعانون من استثمار الرأسماليين الجشع، ويعيشون حالة مريعة من الفقر والفاقة، كانوا يطمحون للتخلص من نير الرأسماليين، وكانت الجماهير الشعبية الروسية ترغب في إنهاء الحرب وإرساء السلم.

لقد أصدر لينين مرسوم الأرض، ومرسوم تأميم المصانع والمصارف مباشرة، ومرسوم السلم، واستطاع بذلك، أخذ زمام المبادرة مؤيَّداً بالجموع الغفيرة من الكادحين، ويستلم السلطة، في الوقت الذي عجزت فيه القوى الأخرى الموجودة في الساحة السياسية عن تلمس رغبات الشعب الروسي وطموحاته.. من كل ذلك يصلون إلى استنتاج أن ثورة أكتوبر كانت من المنطلق الاجتماعي تعبيراً عن الاحتجاج الموجه ضد الظلم الرأسمالي، ومن المنطلق السياسي قد أدت إلى تغيير نظام سياسي بنظام آخر، دون أن يشكل ذلك انعطافاً اجتماعياً عميقاً من حيث النتيجة، مثل الثورة الفرنسية، أي أن هذه الثورة لم ينتج عنها قيام تشكيلة اجتماعية جديدة مكان تشكيلة اجتماعية أخرى.

إلا أنه من المؤكد ومهما قيل عن هذه الثورة، أن أحداً لا يمكن له أن ينكر أنها كانت حدثاً تاريخياً كبيراً، من حيث حجمه وتأثيراته وانعكاساته العالمية، وما أحدثته من تغييرات جيوسياسية في كل أصقاع الأرض، لم تكن لتحدث لولاها. ويكفي أن نذكر بعضاً من هذه التغيرات التي جرت بفضلها، كالنهوض الذي أعقب هذه الثورة في حركات التحرر الوطني المدعومة من قبلها، وتكريس ثقة الكادحين في العالم أجمع بإمكانية تحقيق حلم البشرية منذ القديم بتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفاشية، وتصفية النظام الكولونيالي، ودعم الدول الفتية الطامحة للنمو والتنمية والاستقلال الناجز، وتكريس السلم العالمي، والكثير الكثير غير ذلك.

العدد 1104 - 24/4/2024