حركة ما بعد الحداثة والمستقبل (2من2)

كأن المبدأ العام الذي يجب أن يحكم الإنسان هو (إرادة القوة) في عمل كل ما من شأنه هدم أسباب القهر وفرض الإرادة على العالم. ولا يعني ذلك أن ما بعد الحداثة تعتقد أن العلم والتكنولوجيا والعقلانية قد أسيء استخدامها، بحيث نتج عن ذلك كل تلك المساوئ والمتاعب والأضرار، وإنما هي تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي ترى أن هذه القيم والمبادئ، وكذلك المجتمع الحديث، الذي تنتشر فيه هذه القيم والمبادئ هو بالضرورة مجتمع يؤدي بطبيعته إلى قيام هذه النزعات والمثل والقيم، ويؤمن، بالضرورة أيضاً، باستخدام القوة وتدمير المجتمعات والجماعات المحلية الصغيرة، ويعمل كل ما من شأنه أن يساعد على ازدهار أساليب التسلط والقهر والكبت وغيرها، ومن هنا كانت ما بعد الحداثة تمثل هجوماً واضحاً وصريحاً على كل القيم والمبادئ والقواعد المحورية، التي يؤمن بها المجتمع الحديث.

 السؤال المهم هو: إلى أين يقودنا هذا كله؟ وهل يمكن أن توفر ما بعد الحداثة بدائل عن القيم، التي تشكك في أهميتها، بل وتنكرها تماماً؟ وما نوع المجتمع، الذي يمكن أن تقوم فيه القيم الجديدة البديلة على فرض وجودها؟

يتوقع كثير من المفكرين (المناوئين لما بعد الحداثة) أن يؤدي إنكار القيم، التي أتت بها فلسفة التنوير إلى قيام مجتمع يغلب عليه التفكك والصراع، ولا يرتكز على قواعد أو مبادئ راسخة وثابتة، ولن تكون له سياسة عامة أو مثل عليا مشتركة تستطيع أن توحد بين الناس وتربط فيما بينهم، وإنما ستكون هناك بدلاً من ذلك جماعات متمايزة ومتنافرة داخل المجتمع الواحد، تحاول كل منها فرض إرادتها وسطوتها على بقية الجماعات الأخرى، دون أن تكون هناك أي محاولة جادة للتعاون معاً، وإنما سوف تعمل كل فئة على تحقيق مصالحها الخاصة بصرف النظر عن المصلحة العامة، والالتزام السياسي والوطني.

وتجد هذه النظرة (المتشائمة) ما يؤيدها في الواقع القائم الآن بالفعل، وبخاصة في أمريكا، التي تعتبر مجتمعاً تعددياً بكل معاني الكلمة، وقد يؤدي استفحال هذه الأوضاع المترتبة على ما بعد الحداثة، إلى سيطرة مشاعر اليأس والوقوع في براثن العدمية، والعودة إلى العصور المظلمة، إلا إذا بذلت جهود ضخمة للتغلب على هذا التيار العدمي، الذي تنجرف فيه الحضارة الإنسانية، وخاصة أن ما بعد الحداثة تنظر إلى المستقبل على أنه شيء صعب التحديد أو التحكم فيه، لأن كل شيء يعتبر نسبياً في الحياة، ولذا ليس ثمة ما يمكن الحكم عليه بالصواب أو الخطأ، مما يؤدي إلى تداخل الأمور وتهافت القيم في المستقبل. ولذا لن يكون أمام الإنسان إلا أن يقنع بالعيش في الحاضر، الذي يحيط به.

إن الماضي برأي ما بعد الحداثة ما هو سوى عبارة عن (نص) لا يمكن أن نتعلم منه شيئاً، ولذا يتعين علينا أن نعيش في الحاضر وحده، وهذا في رأي البعض منتهى العدمية واليأس. ولكن الملاحظ في الوقت ذاته أن العالم الغربي هو الذي سوف يواجه مرحلة ما بعد الحداثة بكل (مساوئها) لأن العالم اللا غربي لا يزال يرسف في قيود مبادئ وقيم ما قبل الحداثة، ولم يصل بعد إلى مرحلة الحداثة، التي بدأت مع حركة التنوير. والمشكلة التي تواجه مابعد الحداثة والمفكرين مابعد الحداثيين، هي عدم وجود نظرية واحدة أو موحدة عن هذه الحركة أو التيار الفكري، بل لا يوجد لها تعريف واحد مقبول ومعترف به، وإنما توجد بدلاً من ذلك مواقف متضاربة ومتصارعة ناجمة في الأغلب عن الغموض المحيط بالتغيرات الاجتماعية والسياسية الحالية. ولكن على الرغم من عدم وجود مثل هذا التعريف، فإن الفكرة الأساسية في هذه الحركة هي الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربي في الحياة والفكر لم تعد تصلح للحاضر والمستقبل لأنها مستمدة من مبادئ قديمة أصبحت مرفوضة، وأن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل، ولذا فمن الضروري تهيئة المسرح وإعداده لمستقبل جديد.

يقود حركة ما بعد الحداثة مفكرون مشهورون، أسهموا في وضع أسس الحركة واستراتيجيتها الأساسية وحددوا مسارها، وقد حدد أحد مفكريها الأهداف الكبرى الأساسية لها في عبارته التالية (إن كل تحليلاتي تنكر فكرة وجود أساسيات أو ضرورات واحتياجات عامة في الوجود الإنساني).

فمثل هذه الأساسيات والضرورات يجب إزالتها ومحوها تماماً، لأنها متوارثة من الماضي، كما أنه ليس ثمة معنى في الدفاع عن العقل أو الحقيقة أو المعرفة أو مهاجمتها، وهذا معناه في آخر الأمر أنه لم يكن هناك ما يستحق الفهم، وليس ثمة فائدة من التفكير أو الفعل، كما أنه ليس هناك ما يمكن أن يتحكم في مشاعرنا وأفكارنا أو يوجهها، ولذا فإن في استطاعة أي شخص أن يتكلم أو يتصرف بالطريقة التي تحلو له ما دامت الحضارة الغربية لم تستطع أن تنجح سوى في السيطرة والقهر والدمار، من خلال التمسك بدعاوى العقل والصدق والحقيقة.

وتختلف الآراء حول طبيعة ما بعد الحداثة، فهناك من يرى أن دعاوى ما بعد الحداثة ليست جديدة تماماً، وإنما هي مجرد تعديلات وتحويرات نشأت نتيجة لتغير الظروف والأوضاع المحيطة بالحضارة الغربية، ولا تتأثر بها المبادئ الأساسية والمقومات الأصلية لتلك الحضارة. ولذا فإن ما بعد الحداثة لا تؤلف مرحلة قائمة بذاتها ومتميزة، وإنما هي مجرد استمرار لمرحلة الحداثة لدرجة أن ملامحها الأساسية لم تتضح بعد. في مقابل ذلك يذهب فريق آخر من المفكرين إلى أن ما بعد الحداثة تمثل الفجوة، التي تفصل بين الثقافة الرفيعة الراقية، التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، والثقافة الشعبية المتدنية أو المتردية الضحلة، التي تسود الآن في كثير من الأوساط في مختلف شعوب العالم، والتي تمثل حالة من التدهور والتخلف الثقافي والاجتماعي والسياسي ينبغي التصدي لها.

وهذا معناه أن الاختلاف جوهري بين حالتين من الثقافة، لكل منهما خصائصها، ومقوماتها المتميزة، وذلك على عكس ما يذهب إليه البعض الآخر من أن الاختلاف بين المرحلتين هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، وأن أقوال وآراء وأفكار وتعبيرات ما بعد الحداثة ليست سوى نوع من التلاعب اللغوي بالألفاظ، وهو تلاعب يتقنه تماماً كثير من المفكرين المعاصرين، الذين تأثروا بالبنيوية الفرنسية وأفلحوا في صياغة مصطلحات غامضة للإيحاء بأنها حركة فكرية جديدة وأصلية وتمثل كسراً في مسار التفكير.

وعلى أي حال فإنه لم تُحدَّد حتى الآن ملامح ما بعد الحداثة بدقة ووضوح، بحيث نجد أن هناك من المفكرين من يذهب إلى أن المفهوم يتضمن (استحالة التحديد) نظراً لغموضه واتساع مجاله، بحيث يشمل كل المعرفة الإنسانية بكل تفرعاتها وتنوعاتها، وما تحققه الآن وما يمكن أن تحققه في المستقبل من تقدم علمي وتكنولوجي.

ويترتب على هذا كله ما يقول ستيفن بست ودوغلاس كلنز في دراسة عن (سياسات ما بعد الحداثة والصراع من أجل المستقبل) أن يجد الإنسان نفسه في الوقت الحالي موزعاً ما بين الحداثة وما بعد الحداثة، أو بين التقاليد والمعاصرة، أو بين ما هو عالمي وما هو محلي، أو بين ما هو عام وشامل وما هو خاص وجزئي، أو بين أشياء أخرى كثيرة متناقضة يصعب معها تحديد موقف الإنسان من الحياة في مجتمع الغد ونظرته إلى الأشياء وعلاقته هو نفسه بكل ما يحيط به. وهذا موقف مؤلم بكل المعايير ومليء بالضغوط والتوترات، مما يتطلب العمل على تغيير هذا التناقض والتضارب ومحاولة إيجاد صيغة للتوفيق بين الحداثة، بكل ما يرتبط بها من مبادئ وقيم وأخلاقيات وسلوكيات وأفكار، وما بعد الحداثة التي تنكر كل هذه المقولات وتتمرد عليها.

أي أن الأمر يقتضي العمل على إزالة التوترات القائمة بين الأوضاع المتوارثة، التي تدور حول أفكار وتصورات واضحة عن مفاهيم التماسك والتضامن والحقوق العامة والانتماءات الاجتماعية والسياسية، والتحديات التي تمثلها ما بعد الحداثة والأفكار الجديدة التي تدور حول الاختلاف والتعدد وتشعب الاتجاهات والتوجهات الفكرية عن الهوية وغيرها. فالأمر يقتضي إذاً التوصل إلى صيغة ينطبق عليها التعبير الشائع في بعض الدراسات عن الحداثة وما بعدها، وهو (الوحدة المتفاضلة الأطراف) وذلك على اعتبار أن الوحدة المجردة أو المطلقة، التي ارتبطت بحركة التنوير وفلاسفته، والتي تمثلت في وحدة الطبيعة البشرية، هي في حقيقتها- من وجهة نظر ما بعد الحداثة- وحدة زائفة تخفي وراءها كثيراً من الاختلافات والتمايزات والانشقاقات والجماعات والاتجاهات والمواقف المتضاربة والمتناقضة، والتي يمكن أن تؤدي إلى انفجار المجتمع الإنساني.

والمعضلة، التي تواجه مفكري ما بعد الحداثة هي البحث عن طريقة يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى تجنب الصراع والحروب، وإقرار العدالة الاجتماعية والقضاء على عدم المساواة وعلى الفقر والتغلب على النتائج السيئة المترتبة على النمو اللا عقلاني وسيطرة الاقتصاد الرأسمالي (العولمة) والمتمثل في بعض المؤسسات والمنظمات الأمريكية أو الدولية الكبرى، التي خلقت كثيراً من الأزمات الاقتصادية والبيئية. وثمة محاولات يبذلها المهتمون بمستقبل العالم، للتقريب والتوفيق بين متطلبات الحداثة وما بعد الحداثة وإزالة التنافر بين الاتجاهين وإيجاد صيغة موحدة، بدلاً من الرفض المتبادل، واستخدام هذه الصيغة في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع الإنساني ككل، ولكن تبقى بعد هذا كله المشكلة الأساسية المرتبطة بما بعد الحداثة، والتي قد تكون عقبة أمام جهود التقريب والتوفيق، وهي عجز ما بعد الحداثة عن أن تصل إلى تحديد دقيق لتصورها عن عالم المستقبل وما سيكون عليه الوضع الإنساني في ذلك العالم.

العدد 1104 - 24/4/2024