دور المرأة الفلسطينية في النضال

 ليس من المغالاة القول بأن المرأة الفلسطينية من أكثر نساء العالم حضوراً في تاريخ النضال الوطني وأكثر تميزاً.. فقد كان للحراك النضالي للشعب الفلسطيني تأثير كبير على تكوين الشخصية النسائية، إذ وصلت المرأة الفلسطينية إلى درجة من النضج الفكري والوعي السياسي والديني دفعتها إلى إثبات شخصيتها ودورها بإدراك أهمية العمل الفدائي، ولهذا لم تتوان عن الانخراط في ميادين المقاومة وتقديم التضحيات، فخاطرت بالانتماء إلى فصائل الثورة الفلسطينية واشتركت في الكفاح بمختلف أشكاله وأطيافه، رغم علمها بأن ذلك قد يسبب لها هدم منزلها وتشتيت عائلتها وتعرض أفرادها للتعذيب.

وتعد ظاهرة الاستشهاديات الفلسطينيات بمثابة التطور الاستراتيجي للعمل العسكري الفلسطيني، فقد أثبتت على الأرض أنها ليست أقل قدرة ولا كفاءة من الرجل على تكبيد الاحتلال الخسائر البشرية والمادية الباهظة.

شكل دخول المرأة ساحة العملية الاستشهادية بهذه الدرجة من الجسارة حالة غير مسبوقة تاريخياً، وأضاف مكسباً نوعياً إلى سجل المرأة الفلسطينية التي شعرت بأن الاحتلال يهدد كيان شعبها ووجوده على أرضه.

لقد دخلت المعتقلات وخرجت منها أكثر قناعة وإصراراً على حقها في مواصلة المقاومة ضد المحتل الغاصب، وما كان لهذا الجيل النسائي المتفرد أن يواصل شق طريقه المعمد بالآلام والمعاناة والدم لمواجهة موجات البغي والعدوان التي عصفت به وبوطنه أرضاً وشعباً لولا أنه حول الدموع والجراح صخوراً صلدة والأنوثة والرقة والعذوبة والعواطف جبالاً شامخات.

إن أسماء خنساوات فلسطين مازالت محفورة في الوجدان (وفاء إدريس، نورا شلهوب، دلال المغربي، دارين أبو عيشة، آيات الآخرس، إيرينا بينسكي، أم نضال فرحات) اللواتي سطرن بشجاعتهن وصبرهن غير المحدود معاني العزة والكرامة، والقائمة تطول لتشمل كل امرأة فلسطينية أطلقت الزغاريد إذا جاء خبر استشهاد ابنها، وتعتبر يوم استشهاده يوم عرسه وهي التي آوت المطاردين وتحملت تبعات فقدان الزوج.

إن ما قامت وتقوم به المرأة الفلسطينية قد أربك الصهاينة، وأدخل الخوف والرعب في قلوبهم ووضع قادة الأمة العربية الذين ألجمهم الصمت في موقف فخر عندما لم يجدن في بغداد معتصماً ولا في غيرها.. فحملن راية المعتصم وسيفه وامتطين صهوة نخوته في زمن فقدت فيه النخوت وغابت عنه الجيوش.

لقد تعدت مشاهد التضحية عندهن مراحل الصبر والتحمل وتحولن من أمهات حاضنات لمشروع الشهادة الذي أنجبته من أرحامهن إلى استشهاديات رائدات اكتشفن سر العلاقة بين الحياة والموت وبين الفناء والبقاء.

يؤرخ المشهد السياسي والاجتماعي والجهادي الفلسطيني، نضال الفلسطينيات، فقد ترى في جيل الفلسطينيات الجديد الشهيدة وأم الشهيد وزوجة الشهيد وبنت الشهيد وأخت الشهيد إلى جانب الأسيرة وأم الأسير وزوجة الأسير وأخت الأسير وبنت الاسير، كذلك الجريحة وأم الجريح وزوجة الجريح وبنت الجريح وأخت الجريح، كل ذلك يحق لها أن نمنحها عن جدارة نوط الشجاعة ووسام الإقدام ووشاح البطولة.

ومازال في الذاكرة تلك اللقطة المتلفزة في أعقاب اجتياح العدو مخيم جنين حين ظهرت إحدى الفلسطينيات (ريم الرياشي) وهي تتطلع إلى الخراب والدمار الذي أحدثته عملية افتراس المخيم ثم قالت: (الفلسطينيون لن يركعوا ولن يستسلموا ولكننا سنظل ننجب وننجب لكي نعد لهم أجيالاً لا تنضب من المقاومين).

كتبت إحدى الصحفيات في صحيفة إماراتية: (لو كنت فلسطينية في زمن ريم الرياشي، لوددت أن يعلمني أصحاب النظريات الحديثة طريقة أسترد بها أرض أهلي وأحافظ على بيئتي وأرضي وكرامتي بعد أن فشلت كل التجارب ومن ضمنها المفاوضات في الحفاظ على أي حق مغتصب في فلسطين.. هل من متبرع)؟

ولهذا كان الأمر طبيعياً أن نرى الأم الفلسطينية تزغرد عند تشييع ابنها أو حتى أبنائها الشهداء والزوجة تودع زوجها الشهيد بدمعتين، الأولى حباً والآخرى فخراً.

فكم من أم نذرت أبناءها في سبيل الله وجعلت منهم وقفاً لمسيرة الجهاد والمقاومة وباركن سعيهم ووقفهن يودعنهم بكل عظمة وجرأة وشموخ وهم على أعتاب تنفيذهم العمليات دون أن يبدر منهن أي تردد أو تراجع بل قالت إحداهن لابنها وهي تودعه: (ها هو الموعد قد أزف وأنا أنتظر أن تعود إليّ شهيداً)، وبعد أن قبلته بحرارة ودعت له بالتوفيق، قالت أم نبيل لابنها الاستشهادي محمد أحمد حلس وهي تحتضنه وتقبله (كن صامداً وصبوراً وصابراً، وجه سلاحك بدقة في وجه العدو، خذ أمتعتك ولا تترك للأعداء الفرصة لقتلك قبل أن تثأر منهم لأبناء شعبك وأهلك). وكذلك كان حال الأم نعيمة العابد والدة الشهيد محمود التي ودعت ابنها وتابعت الأخبار حتى تتأكد من نجاح ابنها في اقتحام المستوطنة وحين علمت باستشهاده وزعت الحلو ودعت النسوة إلى عدم البكاء على الشهيد.

إن ظاهرة الأمهات أوصلت رسالة كبيرة من الخوف والهلع في نفوس المجتمع الصهيوني على حد تعبير  الكاتب الصهيوني إيجال سيرنا، الذي كان يعلق على مشهد أم نضال فرحات قائلاً: (إن ما قامت به أم فرحات ينذر بمستقبل سيئ لإسرائيل، لأن من يشاهد هذه المرأة وهي تودع ابنها بكل هذا الحماس يصل إلى قناعة مفادها أنه لايمكن إخضاع الشعب الفلسطيني بالقوة مطلقاً).

وبهذه الروح الجبارة أذهلت أم الاستشهادي عماد الزبيدي الصحفيين الذين جاؤوا ليبلغوها بأن ابنها هو الاستشهادي الرابع، وبدل أن تصرخ في وجوههم منفعلة باكية بدأت تزغرد فرحة تتمنى استشهاد أبنائها الآخرين والأكثر من ذلك أنها خرجت في اليوم التالي تهتف في مسيرة ابنها الرمزية، وزادت أكثر عندما كبّرت وحثت الجماهير على المقاومة والاستشهاد في حفل تأبين ابنها.

لقد سطرت المرأة الفلسطينية ملحمة لا يماثلها أية ملحمة وترنيمة لايماثلها أية ترنيمة لحقيقة الدور التربوي والأخلاقي لها، ولأنها شقت طريقاً لها لتتبوأ دورها التاريخي الرائد كمكون أساسي من مكونات الجهاد.

إن ما قدمته هذه الأسطورة لم يكن ارتجالاً أو مصادفة أو بلا جذور، بل هو دورهن العريق والمشرّف في التاريخ والجغرافيا الفلسطينية.

العدد 1104 - 24/4/2024