سرير من الوهم.. بين متعة المعرفة ولذة القراءة

 لئن اتسع صدر الطالب /الكاتب/العاشق: أحمد، لكل ما أفضى وما لم يفضِ به، من منغّصات الغربة وآلام القلب وآماله، فقد هدهد نصُّه (سرير من الوهم) غير قَدرٍ ومصيرٍ وروايات:

مشيئة قدر، أن يذهب أحمد، خريج كلية الهندسة في جامعة دمشق، تاركاً فيها هزار التي يناجي خيالها قائلاً: ما بيننا شيء أكبر من القبل ومن العشق نفسه، أنا لم أحبّك فقط، بل أعبدك.. أغرق في عسلية عينيك، أجثو مبتهلاً… ص 116.

مشيئة قدر.. أن يذهب أحمد في منحة دراسية إلى (خاركوف) عاصمة أوكرانيا السوفيتية، في تسعينيات القرن العشرين، فيتخصص هناك بالدراسات العليا في هندسة ميكانيك الجرارات.. ليلتقي بـ (أولغا) الشّرطية، التي تتبع دورة محقق جنائي، في معهد خاركوف الحقوقي: عاد بذاكرته إلى اليوم الأول لتعارفهما، بينما كان جالساً في المقصف مع زميله (فاليري)، يحتسيان القهوة ويناقشان المنحنيات التي حصل عليها، ومدى منطقية النتائج (…) في هذه اللحظة انتبه أحمد إلى ثلاث فتيات، يحدّقن إليه مبتسمات، وهنّ على ما يبدو يتهامسن عنه. بادلهن الابتسام، فخفضت اثنتان منهن رأسيهما ضاحكتين، بينما الثالثة تابعت تحديقها وابتسامها، غمزها بطرف عينه اليمنى، فبادلته ذلك- ص14-15. لشدّ ما شابه مصير الشعب السوري، بما آلت إليه ظروفه الكارثية، من تخريب وفساد وتدمير، بسبب الحرب الكونية الغاشمة التي ما انفكت تجتاحه، باسم (الحرية) و(الديمقراطية)، منذ عام 2010 حتى تاريخه، مصير شعوب الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، باسم إعادة البناء (البريسترويكا) والعلنية (الغلاسنوست): انظر كيف تعاملت الرأسمالية مع الاتحاد السوفييتي، عندما وجدت أن الحروب العسكرية لن تجدي نفعاً في هزمه، لجأت إلى إثارة النزعات القومية والدينية بين شعوبه (…) ففي بداية الثمانينيات صرّح وزير الخارجية الأمريكية، بما معناه: سننتصر على الاتحاد السوفييتي من دون حرب عسكرية، لأنه سيهزم نفسه بنفسه من الداخل- ص132.

أليس المشار إليه أعلاه من فعل الرأسمالية ، هو ما تفعله الإمبريالية العالمية في سورية اليوم؟

(أعطى السائقَ الدولار المتفق عليه فتناوله الآخر بعناية فائقة، وبدأ يقلبه أمام عينيه ويدقق النظر فيه، سأله (…) إذا كان لديك أي شك فلدي روبلات؟

– لا، لم أقصد، وأي عاقل يستبدل جلالة وفخامة الدولار بالروبل الذي تسقط قيمته يوماً بعد يوم، وقريباً سيصبح مثل ورق التواليت)- ص156.

ألا تحافظ الفكرة أعلاه على معناها، ويبقى السرد في سياقه، إذا ما سحبنا الذي حدث في الاتحاد السوفييتي سابقاً، وبدَّلنا الليرة السورية بالروبل الروسي، على ما يحدث في سورية اليوم؟

رواية حب وحرب

لمّا كان الحقد مع سائر أفراد عائلته، من ظلم وجشع وتسلط واحتكار واستئثار.. هو الدافع الأول والسبب الأهم لشن الحروب بأنواعها من الداخل، فتؤخذ بها الدول التي عزّ أخذها من الخارج. فإن الحب وأعضاء أسرته، من بذل وعطاء وتفانٍ وأثرة، في الجهة المقابلة والجبهة المقاومة، هو الأساس الأمثل والمحور الأجمل، في بناء الإنسان والمجتمع.

من يقرأ رواية (سرير من الوهم) لطالب الدراسات العليا سابقاً، في جامعة خاركوف، ووزير التربية حالياً في سورية الدكتور هزوان الوز، سيكون إضافة إلى ما سيكون عليه بعد قراءتها، على إحدى حالين: سيتذكر كثيراً من أنواع الفساد التي صادفها خلال دراسته، في جمهورية أو أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقاً، إذا تقاطعت دراسته مع واحدة أو أكثر سنوات (الانهيار). فضلاً عن تذكُّر غير اسم كـ(غالية)، (راية)، (فيرا)، (ناتاشا) أو (أولغا)، اسم صديقة أحمد بدايةً، وعشيقته وزوجته فيما بعد: (شفتاها كرزتان، وجنتاها تفاحتان لونهما ورديّ، صوتها رخيم. تتكلم الروسية بلكنة أوكرانية بيضاء كالثلج، نهداها حمامتان، وشعرها أطلقته حراً كملاعب الريح)- ص 20.

.. أولغا تلك التي أخلصت لأحمد حدَّ الولاء وأحبته حدَّ الهيام، ولا بد أن سيذكر دوره وموقفه، ممّا كان يجري في ذاك البلد. هذا إذا ما كان من المهتمين والمناصرين للاتحاد السوفييتي آنذاك ودوره في مساعدة شعوب الأرض، وليس مستهلكاً للمساعدات وحاصداً للملذات فحسب.

وسيتعرف أكثر، إلى ما كان يحصل في ذلك البلد، في تلك الفترة، ليس عن طريق الدعاية (سواء منها المناوئة أو الموالية). وإنما سيتعرّفها رؤية بعيون مواطنيها.. سمعاً عن ألسنتهم.. ومكابدة عبر تدهور غير القليل منهم، نفساً وجسداً ومعيشة. هذا إذا ما كان قارئاً للرواية فقط.

بحر من الواقع

لئن جاء عنوان الرواية في إحدى دلالاته، إحالة على واحد من أمراض العقل، وهو (الوهم) فإنه في الوقت عينه يؤكد بشكل غير مباشر أنه حال طارئة وإن طالت، وتصور كاذب وإن تبدّى حقيقة، هذا من زاوية. وقد أشار العنوان، من زاوية أخرى، إلى صغر ذلك السرير من الوهم، وخفته وضآلته، بالنسبة إلى بحر الواقع الذي يزخر بالحقائق.

أمّا الوهم كمرض، فمثلما يعود في أصله الى غير سبب ومحرض ومساعد، كذلك أيضاً يختلف من حيث حامله إلى غير نوع ولون ودرجة. فإلى ما يصيب الفرد أو الأفراد، من تجليات الوهم سلباً وايجاباً. هناك أيضاً من الأوهام ما يصيب السلطة /السلطات، وما يصيب الشعب/ الشعوب. وذلك عندما تتوهم السلطة الحاكمة في بلد ما، أنها تستطيع خداع شعبها، إلى ما لا نهاية، أو يعتقد شعب ما أنه بالترهيب والترغيب، أو بالدعاء والصلوات، يتأتى له إصلاح سلطته، أو حضّها وحفزها، كي تصلح نفسها بنفسها!

ابنة شرعية للحياة وشهادة عليها

كما الحياة نفسها تضجّ بثنائيات ألوانها، ومشتقات تزاوجها، على سائر الصعد والمستويات: جسدياً وروحياً، مادياً ومعنوياً، بيئياً وبشرياً، سلباً وإيجاباً، قبحاً وجمالاً، خيراً وشراً، بياضاً وسواداً، حقيقة ووهماً.. إلخ. كذلك كانت رواية (سرير..) من غير زاوية وجهة ومقلب، لاسيما من حيث الجنوسية، إذ يتشابك فيها ويتشارك السِّيَري بالأدبي بالتوثيقي بالرسائلي. أو لجهة امتداد الأحاسيس الشخصية وتداخلها وتكاتفها، ومنها: الأسرية، العائلية، الوطنية، القومية، والإنسانية؛ ما يعطي الرواية شهادة بتكاملها أولاً، وشرعية بُنُوَّتِها للحياة والواقع ثانياً، وشهادة صادقة عليهما تالياً. ولشدّ ما كانت كلمات الناقد الدكتور عاطف البطرس المثبتة على غلاف الرواية، صادقة وحاذقة. خاصة أنه عايش بنفسه ردحاً من تداعي التجربة الاشتراكية في عقر دارها – موسكو – حين قال: هذه الرواية شهادة صادقة وعلمية ومحايدة، بعين أديب ورجل علم يقدم فيها شخصيات نموذجية ووقائع ما تزال مثار جدل ونقاش، حول التجربة الاشتراكية الأولى في العالم. تتناول الرواية موضوع بناء الدولة السوفييتية وتصدعها، وتتألف فنياً من محورين: الأول هو العلاقة العاطفية، قصة الحب المحبطة بين هزار وأحمد قبل سفره للدراسة. والثاني هو التجربة العاطفية لأحمد بدلالتها الرمزية في بلد الدراسة.

الرواية شهادة على أهم حدث في نهاية القرن العشرين، وتوفر لنفسها قيمتين: متعة المعرفة، ولذّة القراءة.

العدد 1105 - 01/5/2024