الورقة جسد.. والفكرة جناح

ليس الورق إلا أرضاً واسعة البيان لأحلام المبدعين.. عليها يولّدون أفكارهم وهواجسهم وتطلعاتهم.. منها يبدؤون، ومن بياضها ينطلقون نحو قمم الإبداع والسحر.

إن الورقة نهر عظيم يغرق الصغار، ويساعد الكبار على الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم العظيمة.

يحمل الورق زوارق الحالمين، وسفن العمالقة القادرين على ولوج المحيطات والغوص إلى أعماقها.

فوق ذاك البياض يولد الفكر، ويزرع الأحلام لتكبر وتنمو وتواجه العواصف والبروق والرعود إذا كانت أفكاراً أصيلة، وأحلاماً غايتها رفع قيمة الإنسان وتقديس روحه الطاهرة، وكرامته التي لا يمكن تبديلها أبداً بأي شيء.

إن بذور الخلق وشجر الإبداع لا بد له من أرض ما تزرع فيه، والورق الأبيض خير أرض لتلك البذور وذاك الشجر.

وإذا كانت الورقة ثمرة، كانت الفكرة زهرتها، وإذا كانت شجرة، كانت أغصانها رايات خضراً تحمل الثمار الطيبة، والفواكه الناضجة.

إنما ليس كل من زرع بذاره على الورق أنبتت له القمح والياسمين، وخضت أحلامه وحفظت تأملاته، فالوردة في يد الحي غير الوردة على قبر ميت، ومن يحمل التابوت يختلف عن ذاك القابع بداخله، ومن يصوّب نحو الهدف لا يقاس ألمه بألم وجرح المستهدف، ومن يتسلق القمة لا يشبه بالضرورة عنفوان القمم وشموخها حتى ولو وصل إليها، وسكن حولها.

وقد تكون الأوراق البيض في أيد سود، ونفوس مريضة، نواياها مقيتة، وأهدافها رخيصة، وأفكارها سطحية. ومتى كان وزن الخشب أعلى من وزن الذهب، ومتى كان الحديد أقوى من الفولاذ، واليباس أبقى من الخضار، واشتعال أعواد الثقاب ألمع من التماع الجمر والنجوم؟

وإذا كانت الفكرة ثمرة، فإن الورقة يد تجمع الثمار، وإذا كانت الأحلام خيوطاً، كانت الورقة إبرة تنسج وترسم تلك الأحلام  بالقلم والريشة.

وبإمكان الأوراق الخفيفة أن تحمل أفكاراً أثقل من أوزانها، وأثمن من سعرها، وفي الوقت عينه قد نجد أوراقاً مصنوعة من الذهب والحرير، ورغم ذلك تبقى الأفكار المدونة عليها أفكاراً رخيصة، إذا كانت صادرة عن قلم فاسد ورأس دنيء.

وما ذنب النهر العذب إذا سبح فيه التماسيح وحمل فوقه الضفادع والثعابين؟! ألا تحمل الأرض ذاتها الطحالب والأعشاب الضارة، وشجر الزيتون والنخيل والكرز، أولاًيحيا عليها الكريم والبخيل، والجبان والشجاع، والفاسق والشريف؟!

إن الأوراق مظلومة، فهي بيضاء ونقية كثلوج الجبال ومياه الينابيع، إنما ما يُرسم أو يكتب عليها من قصص وروايات وقصائد خبيثة هي التي تحطّ من قيمتها وتشوّه بياضها، وتسيء إلى سمعتها.

وكما أنه لا يمكن للطائر أن يحلّق دون جناحين، كذلك هي الفكرة الجميلة الساحرة، لا يمكنها أن تبقى وترتفع إلا إذا حملتها الأوراق، وحفظتها الكتب.

وإذا كانت الورقة جسداً، كانت له الفكرة جناحاً، وإذا كانت خنجراً، كانت الفكرة العظيمة شفرته، وإذا كانت سماء، كانت الفكرة نجومها. هكذا هي الأوراق، تحتضن الأحلام وتمنع زوالها، وتحفظ الأفكار وتدافع عن اندثارها، فكيف لنا أن نتخيل منجزات الحضارات وإبداعاتها وثقافاتها العظيمة لو لم توجد الأوراق. وما كان ذلك ليصل إلينا أبداً لولاها.

وفي النهاية تبقى الورقة رحماً يحمي الأفكار، وخزاناً يحفظ مياه الأحلام من التبخر والتلاشي والذوبان. إنها الزجاجة التي تحمل العطر، وبقدر ما يكون العطر رائعاً بقدر ما ترتفع قيمة الورقة التي تحمله، فالورقة تولد بريئة، مَثَلُها مثل أي طفل صغير ينتظر من يربيه ويعلّمه ويُدخل إلى روحه أفكاراً سامية، وأهدافاً عظيمة ترفعه وتزيد من شأنه وتجعل مستقبله شريفاً وكريماً.

العدد 1105 - 01/5/2024