هل توجد نظرية نقد عربية؟ (2 من 2)

 الشرط الثالث هو شرط إشكالي، ويمكن أن نطلق عليه تجاوز الحواجز.. إن التفكير المحلي المحدود لا يمكن أن ينتج قامة فكرية على المستوى الإنساني، إلا إذا تجاوز الحواجز، وأهمها حسب التقديرات ثلاثة:

الحاجز الأول- هو حاجز التواصل المباشر مع الإنتاج الإنساني. لابد أن يكون للمفكر قناة تصله بالإنتاج الإنساني عبر لغة أخرى غير لغته.

هناك من يقول إن الترجمات تقوم بهذه الوظيفة، لكن الترجمات تقدم له ما يريده المترجمون وما يسمح به الآخرون، ولا تقدم لنا ما تحتاج إلى معرفته في اللحظة التي نحتاج فيها إلى معرفته.. ولذلك لابد للمثقفين والباحثين والمفكرين ولمن يريدون أن يكون لهم قوام نظري، وإسهام إنساني، قناة توصلهم بشكل مباشر مع الإنتاج الإنساني، وهذا حاجز لابد من تجاوزه.

الحاجز الثاني- وهو أصعب وأدق، وهو الحاجز النفسي والإيديولوجي، فمثلاً نحن نمر بمرحلة أصبح العداء فيها للغرب عموماً ولأمريكا على وجه الخصوص شعارات يومية نرددها جميعاً صباحاً مساء، نلعن أوباما، ونسّب الاستعمار الغربي، ونتخذ موقفاً معادياً منه، فهو يتواطأ علينا ويحاربنا ويسحق شعوبنا. للوهلة الأولى كل هذا يكوّن حاجزاً نفسياً وأيديولوجياً، فهل هذا يؤدي بنا إلى أن نكرس دعاوى القطيعة عن السياق الإنتاجي المعرفي في العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها؟ لأن هذا الغرب الملعون يشن علينا الحروب؟

وللإجابة عن هذا السؤال، أود أن نتذكر موقفاً مماثلاً. وجد جيل الرواد نفسه فيه جيل طه حسين، الذي يمكن اتخاذه نموذجاً.. لقد نشأ في وطن احتله هؤلاء الأوربيون ولم تكن دولة أمريكا قد استكملت شروطها حينئذ، فماذا كان الموقف من المحتل؟ كانوا يعادون وطنياً، ثم يستفيدون منه علمياً ومعرفياً وثقافياً.. كيف أمكن حل هذه الإشكالية بهذه السلاسة لدى أبناء هذا الجيل؟ لم يكن يمنع الشباب العربي الذي يحارب قوى الاستعمار الغربي أن يطرحوا مثلاً أسئلة حول سر تقدم الإنكليز السكسون، أو أن يشيدوا بالثقافة الفرنسية، وبالثقافة والإنجازات الفكرية والعلمية والإبداعية الغربية، لأن هذا شيء، وذلك شيء آخر. لقد فعلوا ذلك لامجرد حيلة ذكية للتخلص من مأزق، وإنما يحثاً عن أدوات المقاومة الحقيقية، لأن مقاومة الاحتلال لا يمكن أن تأتي من امتلاك سلاح فقط لا تنتجه أنت، ولا أدوات لا تتحكم في تكييفها، ولكن أن تمتلك العلم والمعرفة.

الحاجز الثالث- ما يمكن أن يسمى حاجز الأفق، مثلاً نحن نتحدث في النقد الأدبي، فهناك آداب إنسانية غنية مثل أدبنا، ولكي يكون نقادنا ومنظرونا على مستوى أن يضيفوا ويسهموا في النظرية المعرفية النقدية، لابد لهم أن يأخذوا بالحسبان، لا المنجز العربي في آدابنا فحسب، ولكن المنجز الإنساني أيضاً، حتى يستطيعوا أن يستنبطوا قوانين الإنتاج.. فالفكر المحلي لا يكفي لإبداع فكرة عالمية إنسانية، فمثلاً نحن لم نبدع مسرحاً بالقدر الكافي، حاولنا أن نستزرعه في بيئتنا طيلة قرنين تقريباً ولم ننجح في الاستزراع.. لقد فشل إلى حد كبير، وانتهى الأمر إلى أن المسرح أصبح مجرد عروض فكاهية، أو استعراض أجسام وأغانٍ.. إلخ.. لكن هل نيأس من نظرية المسرح، لأننا لم نستزرعه بعد في البيئة العربية بالصراحة الكافية، ولا نجد وريثاً لإبداع توفيق الحكيم في الوقت الراهن، ولكن المسرح العالمي يمدّنا بالتيارات الأخرى، ولابد لدارس النقد الأدبي أن يتجاوز أفقه المحلي المحدود حتى يستطيع أن يقدم إسهاماً نظرياً يعتد به.

يمكن القول- على سبيل المغامرة- بأن لدينا إسهامات نظرية نقدية في النقد العالمي، وسيظهر ذلك عند طرح ثلاث مدارس أو ثلاثة تجليات لهذه الإسهامات.

* المدرسة الأولى وهي ما أطلق عليها نقد الاستغراب، أي النقد المكتوب باللغات الغربية، ويقوم به العرب الذين قدموا إسهاماتهم النظرية النقدية باللغات الغربية، وأهمها الإنكليزية والفرنسية، ونخص بالذكر هنا إدوار سعيد، إذ قدم نظريته الأساسية التي انطلق منها عن الاستشراق.. كما أنه أحد أحد مؤسسي النقد الثقافي وتحليل الخطاب.

إن إدوار سعيد تلبس بالأيديولوجيا العربية مدافعاً شرساً عن الحق العربي في فلسطين، ولكن ذلك لم يطمس على الإطلاق قوامه الفكري النظري، وتلك هي عبقريته. لقد استطاع أن يجمع بين هذين النقيضين، حماسه الشديد، ودفاعه العارم عن الحق العربي، والوجود العربي والهوية العربية، ابتداء من كتاباته عن الاستشراق وقدرته على تمثيل ذلك بطريقة علمية موضوعية تحظى بتقدير كل الشعوب الغربية. لقد عرفناه بعد أن عرفه العالم واعترف له، بعد أن تكوّن وأصبح أحد مؤسسي الفكر النقدي العالمي.

لا نستطيع أن نسلب صفة العروبة عن إدوار سعيد، ولانستطيع أن نقول إن إسهاماته القوية الفعالة في مجالات النظرية النقدية المعاصرة غير عربية. صحيح أن معظم تمثيلاته ونماذجه وتحليلاته لم تكن عربية، فهو لم يتشبه بالثقافة العربية، مع أنه تربى في مراحل التعليم الأساسي في مصر في الأربعينات والخمسينات، ثم انتقل إلى أمريكا في سن مبكرة، لكنه كان يقضي كل إجازاته على مقربة من مصر ودمشق وبيروت، لأنه منع من دخول مصر.

هناك أيضاً نماذج أخرى أقل شهرة من إدوار سعيد، إلا أن إسهاماته النقدية كانت هامة مثل مصطفى صفوان، وهو أحد مؤسسي النقد البنيوي الفرنسي، وإيهاب حسن فيلسوف ما بعد الحداثة، وصاحب نظريات النص، وأحد أقطاب الفكر النقدي الأمريكي.

المدرسة الثانية من التيارات التي أسهمت في تنمية وتطوير الفكر النقدي النظري المعاصر، تنقسم إلى طائفتين، ففي النقد العربي – مثلاً- تزدهر خاصة في المجال الأكاديمي المدرسة الأسلوبية، وهي تقدم لنا ظاهرة مدهشة لإمكان الإسهام النظري والتطبيقي في الفكر النقدي العالمي. لقد نشأت في الفكر العربي منذ جيلين، منذ الزيات وأمين الخولي وعدد من الذين رغبوا في تخليق أسلوبية عربية، لكنها انتشرت وازدهرت وأثمرت في النصف الثاني من القرن العشرين عبر مجموعة من مراكز الإنتاج العلمي في الدراسات الأكاديمية، والدراسات التطبيقية في مختلف البلدان العربية، من أقصى الشمال الإفريقي في المغرب، حيث ازدهرت المدرسة الأسلوبية ومازالت تزدهر مثل منذر العياش الذي ترجم الأساسيات في الدراسات الأسلوبية.

إن التنمية المعرفية والنظرية والتطبيقات الخصبة الغنية، التي قام بها النقاد الذين يتناولون الشعر والقصة والرواية والخطاب الأدبي عموماً بالتحليلات الأسلوبية، يمكن أن تمثل إسهاماً حقيقياً في الفكر النقدي المعاصر.

المدرسة الثالثة والأخيرة، والتي تقدم نموذجاً جيداً لهذا الإسهام العربي في النظريات النقدية المعاصرة، هي من أطلق عليهم نقاد الشعرية النقدية، والشعرية مصطلح لا يتوقف عند جنس الشعر فقط، وإنما يشمل السرديات وغيرها.

ويمكن ذكر أبرز أقطابها مثل جابر عصفور وفيصل الدراج وأدونيس، الذين أضافوا للدراسات الشعرية إنجازاً عظيماً، وقدموا في كتاباتهم إضافة حقيقية للنظرية الشعرية، لكن المشكلة الأساسية تكمن في سجن اللغة.

إن أي كاتب ذكي يمكن أن يخرج برواية، فعائدها الإعلامي والأدبي والمعنوي ميسور نسبياً، ومن السهل أن تجد من يترجمها، لكن من الذي ترجم فصلاً من الفصول العميقة الفكرية الحقيقية، التي قدمها أمثال محمود أمين العالم، وغذى بها كل هذه الأجيال؟!

العدد 1104 - 24/4/2024