ملتقى السرديات.. وأسئلة الرواية

سيكون من نافل القول أن الحديث عن تأصيل الرواية العربية نشأة وصيرورات، وصولاً إلى تحققها بالمعنى الفني، من أواليات التفكير النقدي في وعي يسهم في إنتاج وعي جديد بحقيقة الجنس الإبداعي -الرواية- وإشكالياته المثيرة على مستوى تاريخه وأسبقيات الظهور في مسيرته، ذلك الهاجس المعرفي بامتياز هو واحد من اشتغالات النقاد والباحثين والمبدعين، إنتاجاً لأسئلة مغايرة لم تعد ترتهن لماضي الرواية وفضل السابق واللاحق وامتثالها أو تبعيتها للغرب.

ذلك أن مساءلة المضمرات النسقية التي طاولت النشأة بعيداً عمن رأوا أن الرواية العربية مازالت في طور التشكّل رغم مرور أكثر من مئة عام ونيف على صدور الرواية العربية الأولى بالمعنى الفني، أي الذي نهل من تقنيات الرواية الغربية وحاكاها بشكل أو بآخر، أن تكون (غابة الحق) لفرنسيس مراش، أو (زينب) لمحمد حسين هيكل، أو (وي أنت لست بإفرنجي) التي قدمها الناقد شربل داغر، في مسار الأسئلة المعرفية في أصالة هذا الجنس الإبداعي، هذا يعني جدية التفكير في تلك المنعطفات المثيرة التي مشت فيها الرواية العربية لئن تصبح جديرة باسمها.

ولكن اللافت في تلك المسارات الشائكة والدروب الوعرة التي اكتنفتها الكثير من الإشكاليات المثيرة هو أنها رواية كانت تبحث عن هويتها صوغاً واجتراحاً، وبصرف النظر عن تراثها السردي السابق الذي لم يأخذ الشكل الفني إلا متأخراً، وهذا البحث عن الهوية كان الهاجس المضاف للمشتغلين في الحقول السردية، الذين لم يتوهموا يوماً أننا لا نمتلك روايتنا العربية بصيغتها المعاصرة، والتي أبدع فيها الروائيون الكبار فأسسوا واستشرفوا، وذهبوا في مغامرة الأشكال المعرفية حتى أصبح فكر الشكل هو ما غلف تلك المغامرات بطابعها التجريبي الحذر حيناً والمجازف حيناً آخر.

إن جدية المقاربات النقدية سوف تُفضي إلى المزيد من الحوافز لإنتاج ذلك الوعي المنشود، والذي يقرأ الرواية كدالّة مجتمعية لا سيما الرواية والحرب على سورية، وكثافة الآفاق التي تستشرف ذلك الواقع الجديد، الذي ينبغي أن يذهب مبدعون إليه، ليس بنبل الموضوع فحسب بل بمهارة الصناعة التي تجعل من الرواية رغم التحديات الكبرى التي تواجهها، أكثر انفتاحاً على غيرها من الأجناس العابرة فيها، فأن تكون الرواية مثلاً استقراءً للعالم، أي رؤية فيه، فذلك ما يمثل علامة ناجزة نقرأ فيها متغيرات النص الإبداعي الروائي وثوابته، ذلك أن المتغير هو الثابت الوحيد، بحثاً عما يسميه النقّاد بـ (الشبيه المختلف)، الذي يُقصي أي استلاب لسياقات أخرى وثقافة أخرى، بل بالقدرة على توليد الشكل إلا مالا نهاية، وذلك يصب في دلالة التجريب الواعي وماهية عرّابيه المتطيرين إلى فتنة السرد بوعي أعلى.

في التأسيس الجديد لمفهوم الرواية وتاريخها الطويل الذي قطعته، وفيها، تلاقحت مدارس واتجاهات، وغدا سؤال الفن هو السؤال الكبير الذي وقف وراء تلك الشواغل الكثيرة، حيث النوع وليس الكم، حيث استحقاق الهوية، أي إنجازها، باتساع الدلالة.

يعيدنا إذاً في هذا السياق (ملتقى السرديات) إلى استنهاض تلك الأسئلة المؤسسة لنشوء الرواية وتأصيلها بقدر كبير من الاختلاف، لا التماثل، أو البحث في الأجوبة النهائية، ذلك أن طبيعة الرواية ومكوناتها (المُغامِرة)، تقتضي انفتاحاً على الحياة، كما تقتضي تعدداً يثري التأويل ويغذي الذائقة بمهارة المواهب الجديدة التي ترهص بما يمكن تسميته بـ (الحداثة التراكمية)، وبشواغل النصوص، والنصوصية، وتلك المفاهيم التي زحزحت ما هو قارّ في الذاكرة الجمعية، وصولاً إلى المعاصرة بوصفها لحظة معرفية متجددة، وعليه نكون في معايرة فكر الشكل أكثر إخلاصاً لتحسس الإبداع الجديد، واجتراح الأسئلة الجديرة بالانتباه، ولعلنا في سياق المقاربات النوعية للتحولات التي تشهدها الرواية ليس بوصفها ديوان العربي الجديد فحسب، بل بوصفها الجنس العابر للأجناس انفتاحاً وتخصيباً دلالياً، سنقف أكثر على أسئلة ذلك الجنس الإبداعي التي تحيل إليها اللغة الروائية الجديدة، بصرف النظر عن توسل تقعيد ذلك الجنس- لتكون الرواية بحق مرايا الأزمنة القادمة.

العدد 1104 - 24/4/2024