عبد المعين الملوحي وأصدقاؤه

شغل الشاعر السوري عبد المعين الملوحي الناس بشعره و(بشظايا عمره)، وهو ابن مدينة حمص، و(الشيوعي المزمن)- كما كان يوقّع بعض مقالاته أو يقدم نفسه لأصدقائه الجدد، وقد أدهش عارفيه بروحه الطفلية الصافية، وبحواراته الجريئة مع زواره القلائل، أو بمناقشاته المتخيلة مع أصدقائه الكثر المقيمين في مكتبته الضخمة.

وكتابه المعنون (شظايا من عمري) شكل طريف سهل في كتابة السيرة الذاتية، اختار فيه وقفات ومحطات من تجربته الحياتية، مزج فيها الدعابة والوصف والنقد الاجتماعي والإعجاب المعلل بالمفارقة الموحية والأسئلة الوجودية.

 (الناس كالأشجار) عنوان إحدى مقالات الكتاب، يحكي فيها عن زيارة قام بها إلى مدينة السلط الأردنية، ملبياً دعوة صديق شاب سبق أن زاره في بيته بدمشق، وأظهر الملوحي إعجابه بمبادرة الشاب وحماسته لصداقة شاعر معروف، ولفته في المنزل مشهد رجل مسن مقعد متمسك بالحياة حتى نسمتها الأخيرة، لكن إعجابه بما رآه في منزل الصديق الأردني تحول إلى حزن بعد فترة وجيزة، إذ سمع أن الصديق الشاب توفي، بينما بقي أبوه المسن على قيد الحياة، فقال محاولاً تعزية نفسه: الناس كالأشجار فيها القوي الذي يحتمل العواصف والمحن ولا ينكسر، وفيها الضعيف الذي تقتلعه صدمة صغيرة.

وفي مقالة عنوانها (ردّ على الشاعر معين بسيسو) شعر الملوحي بوخزة مؤلمة من عتاب مرّ وجّهه بسيسو المقيم في موسكو للكتاب والمثقفين العرب، عبر قصيدة له يلومهم فيها لأنهم لم يشعروا بمعاناة الشعب الفلسطيني وبمحنة مثقفيه ومهجريه ولاجئيه وأسراه، ومما قاله فيها: عموا صباحاً أيها الكتاب/ لعلكم تسمعون نشرة الأخبار/ لعل أطفالكم لا يخافون/ مثلما يخاف اطفالنا/ حين يسمعون نشرة الأخبار/ أيها الكتاب/ طويلة قائمة الثورات/ نحن لا نريد منكم دماً/ ولا نريد خبزاً.

فردّ عليه سميّه معين الملوحي بقصيدة وصف فيها حال المبدعين والكتاب العرب، ومحنتهم المزمنة، قال فيها: لماذا تعاتبنا يامعين؟/ ونحن مثلك محاصرون/ نأكل خبزنا مراً/ لا نملك إلا قلماً بجثث ضحايانا يتعثر/ ماذا تريد منا يا معين؟/ أنت تعرف أننا نقاتل بالكلمات/ وقد أصبحت الكلمات بغايا وسبايا.

وقد أسعفني الحظ فصرت صديقاً لعبد المعين الملوحي، وكان ذلك في السنوات السبع التي سبقت رحيله عن دنيانا، وحين زرته أول مرة لاستلام مادة أراد إيصالها لجريدة (النور) التي حرص على التعاون معها مثل حرصه على التعاون مع جريدة (نضال الشعب) التي كان يصدرها الحزب قبل (النور)، لاحظت أن جسمه قد ازدد نحولاً، والوعكة القديمة التي ألمّت به وهو في الصين قد أضعفت حركة نصفه الأيسر، لكن كل ذلك لم يفقده الحيوية والنشاط، ولم يفقد نظرته لمعانها المحبب، وظل محتفظاً بابتسامته الطفلية التي يستقبل بها أصدقاءه القليلين في ركن مكتبته المفضل، حيث الكتب والمخطوطات تملأ الجدران.

وقد سألته مرة: ألا تثقل عليك الوحدة ما دمت لا تغادر شقتك إلا في أوقات نادرة؟ فأجاب وابتسامة واثقة انبلجت على شفتيه: كيف أشعر بالوحدة وأنا محاط بمثل هؤلاء الأصدقاء؟ وأشار إلى جدران الغرفة التي امتلأت حتى السقف بالمجلدات والدواوين والمخطوطات التي ينوي تحقيقها، أو المخطوطات الشخصية التي تنتظر فرصتها للنشر، وكان يباهي دائماً أنه أنجز كتباً بعدد سني عمره، وكان يأمل أن يمتد به العمر كي يرى مخطوطاته كلها منشورة، وأضاف: حين أشعر أنه ليس لدي ما يشغلني، أشير إلى صديقي المتنبي أو التوحيدي أو المعري، أو أشير إلى ابن زيدون أو ابن خفاجة، أو أستنجد بابن جني أو ابن السكيت أو ابن طفيل، فيأتي كل منهم ملبياً، ويضع بين يدي ما دبّجته قريحته من درر لا يقوى الزمن على إتلافها، ولا تستطيع الأيام إطفاء وهجها.

كان الملوحي وطنياً صادقاً على طريقته، محباً لدمشق وحمص، ولكل المدن السورية، وقد أهدى مدينته حمص كتاباً عرّف بتاريخها وبأبرز معالمها، ولخص سيرة أبرز أعلامها، وكان كارهاً للنفاق والغباوة واستغلال المنصب، ومنتقداً لضعاف الموهبة الأدبية، وكان أشبه بزيتونية سورية معمرة، تعطي بسخاء وتتشبث بالأرض، وتعلن حضورها البهي، ولا تحسب حساباً للمنافع الشخصية أو لأزمنة الجوائح والنكبات.

ذكر الملوحي أمامي مرة أنه ينوي أن يهدي مكتبته بعد رحيله إلى سفارتي الصين وفيتنام، وعلل ذلك قائلاً: الأولى لها فضل علي لأنها عالجتني عند إصابتي، والثانية كرمتني بوسام رفيع لأنني ترجمت كتاب (تاريخ الأدب الفيتنامي)، وطلب مشورتي في هذا الشأن، فشكرته على ثقته بي، وأشرت عليه بأن يهدي قسماً من المكتبة لكل من هذي البلدين الصديقين القديمين لسورية، وأن يهدي قسماً أخر من المكتبة لمديرية الثقافة في حمص ولعدد من المراكز الثقافية التابعة لها، وأن يهدي قسماً ثالثاً إلى مكتبات المدارس التي تعلم فيها أو مارس فيها حرفة التدريس، فأعجبته اقتراحاتي ووعد أن يهتم بتنفيذها، وأضاف: ما اقترحته أزاح عن كاهلي عبئاً ثقيلاً.

فكيف لإنسان مثل الملوحي بما عاناه وخبره في حياته بين حمص ودمشق والقاهرة وبكين،وما نثره بين قرائه وأصدقائه من لآلئ الشعر وقبسات الكلم الطيب أن لا يظل في ذاكرتهم؟

وكاني به قد تحول من صديق مباشر قريب أسمع صوته، وأسعد برؤية ابتسامته الطفلية، إلى صديق ملازم يسكن مكتبتي، ويهديني ابتساماته وتشجيعه، وحين أحس أنه ليس لدي ما يشغلني، أناديه لأحاوره، فيأتي ملبياً مسائلاً عن حال البلاد التي غادرها جسداً، لكن روحه تحلق في أركانها، مثلما يأتي عمر أبو ريشة ونزار قباني ونديم محمد، ووصفي القرنفلي وبدوي الجبل وعبد الله عبد، وسعد الله ونوس وهاني الراهب وعبد السلام العجيلي وفواز الساجر، وسعيد حورانية وحسيب كيالي وليان ديراني، ومثلما يأتي من واكبهم الملوحي، وعانى مثلهم تعب الكتابة ووجع الإبداع من المشاكسين المنذورين للجهر بمطالب أهل القاع الاجتماعي المهمشين الطيبين، ولالتماس بارقة أمل تنير طرقهم المقطوعة وحصاراتهم المزمنة.

العدد 1107 - 22/5/2024