سمير القنطار… حجّتنا عليهم

يقول شاعر المقاومة محمود درويش:
إن الطريق إلى البيت قد تكون أجمل من البيت نفسه أحياناً.
في قصة الأسير المحرر سمير القنطار، حتماً لم تكن تلك الطريق التي استغرقه عبورها قرابة ثلاثة عقود أجمل من أي بيت على الإطلاق، ولكنها كانت الطريق التي جعلت من بيته في بلدة عبيه  يوم تحريره قبلة  للمقاومين وأيقونة للباحثين عن نبراس يلتمسون به دروب الخلاص.
شخصياً.. لطالما عددتُ نفسي من المطلعين على تجربة هذا الرجل من خلال متابعتي لنتف أخباره عبر وسائل الإعلام، ولكن حين شرعتُ في قراءة مذكراته (قصتي – منشورات دار الساقي – بيروت) سرعان ما بدأت اكتشف أن متابعة سيرة كهذه من خلال نشرات الأخبار شيء، والولوج في عمقها الوجداني من منظور صاحب التجربة ذاته شيء آخر، إلى درجة أنني كنت بحاجة إلى تذكير نفسي بين الحين والآخر بأن ما بين يدي هي سيرة ذاتية حقيقية بكل تفاصيلها ودقائقها وليست إحدى روائع الأدب الأمريكي اللاتيني.
 ملحمة  إنسانية  خط  سطورها الأولى فتى  في العاشرة من عمره، رسم على دفتره المدرسي يوماً خريطة فلسطين وعلمها، وتحتهما اسمه مشفوعاً بكلمة (الشهيد).
لعل معظمنا قد سمع بعملية نهاريا بطريقة أو بأخرى..  في ليلة من ليالي أيار عام ،1979 مجموعة من الفدائيين تتسلل عبر البحر تحت جنح الظلام، فتقتحم مستعمرة نهاريا الساحلية في محاولة لأسر جنود أو مستوطنين لمبادلتهم بأسرى في سجون الاحتلال.. اشتباك يسفر عن قتلى وجرحى وشهداء، ضجة عالمية اختزلت لاحقاً بعنوان واحد: سمير القنطار، الفتى اللبناني الذي اقتحم الوعي الجمعي الصهيوني ولما يبلغ الثامنة عشرة.
  نعم.. سمعنا بكل ذلك ولا شك، ولكن.. من منا كان يعلم أن قائد العملية قد نام ملء جفنيه لساعة ونصف تحت شجرة ليمون وهو في طريقه لتنفيذها، كما لو أنه سائح ضجر من تأخر موعد إقلاع طائرته التي ستقله إلى هاواي؟
هل كان لنشرات الأخبار أن تحدثنا عن روح الدعابة التي واجه بها الحكم الصادر بحقه،  ليتندر بالسؤال عن مغزى الستة أشهر المضافة إلى حكم بالسجن لمدة 542 عاماً؟
من منا يستطيع تصور حجم فاجعة من يتلقى أنباء وفاة أحبته بعد أشهر من وقوعها؟ والده الحبيب، وشقيقته الغالية التي قتلها يأسها من عودته. 
 هل تحدث أحد عن قوة روحه التي مكَّنته من صون رهافة مشاعره الإنسانية من أن يخدشها اليأس حتى لنراه يشرع في نسج أغرب قصة حب من معتقله تارة ، ويتأثر لموت قطةٍ تارة أخرى؟
هل بإمكاننا حقاً تخيُّل مبلغ الصمود والإرادة اللازمين لمقاومة الإغراء بالخلاص من شتى أنواع العذاب بمجرد الإقرار بما يريده المحققون؟ ناهيك بتعمده استفزازهم عبر مواصلة الابتسام في وجوههم ساخراً مستهزئاً. أية إرادةٍ فولاذيةٍ تلك التي صمدت في وجه كل ما أبدعته العقلية الصهيونية الحاقدة من أساليب انتقام يعجز حتى الشيطان عن إبداعها، على حد وصف مناحيم بيغن.. منذ لحظات أسره الأولى عندما بصق في وجه المحقق الذي أشار إلى انتمائه المذهبي، وصولا  إلى رفضه الانصياع لأوامر سجانيه بارتداء ثياب غير لائقة يوم إطلاق سراحه، وما بينهما مما يفوق الحصر من مواقف ومحطات مضيئة بددت ظلام السجون التي مر بها من الصرفند إلى هداريم، حتى غدا قامة شامخة لا يتردد كبار أساطين المقاومة ممن مرّوا بتلك السجون، في مراجعته في بعض شؤونهم، مسترشدين بخبرته الفريدة.
إن الغوص في تفاصيل هذه القصة المؤثرة يجعلنا ندرك كم نحن بحاجة لأمثال بطلها في مثل هذا الزمن الرديء، الذي لا ينفك يستنسخ لنا كل يوم أبا رغال آخر، حتى غدوا ملوكاً وأمراء وزعماء تيارات وأحزاب ورؤساء مجالس، لم يتورع موتور منهم أن يخرج علينا يوم تحرير سمير عبر إحدى الفضائيات (الرغالية) ليسأل: ما الذي فعله القنطار ليستحق أن تُرسم من حوله هالة العظمة تلك؟ ما الذي فعله في سجنه سوى الانتظار الذي تحبون أن تدعونه صموداً تارة  وبطولة  تارةً أخرى؟
نقول لهذا ولأمثاله من العاجزين عن إدراك معنى الصمود والبطولة والمقاومة والشجاعة والكرامة وغيرها من المفردات العصية على عقولهم الموبوءة بالهزيمة والاستسلام والجبن والخيانة:
كان بإمكانه فعل الكثير مما تحبون أن تسمّوه واقعية تارة، وانتهازاً للفرصة تارة، ونضجاً سياسياً تارة  أخرى. كان بإمكان سمير القنطار ألا يضرب محققه بمصباح مكتب كهربائي منذ ساعات أسره الأولى، ويوفر على نفسه عناء المزيد من التعذيب الانتقامي.
كان بإمكانه ألا يؤثر أحد رفاقه على نفسه عندما أتيحت له فرصة الهرب من السجن.
كان بإمكانه ألا يجعل من نفسه بقيادته لحركات الإضراب والعصيان، بؤرة استقطاب لنقمة سجانيه.  
كان بإمكانه أيضاً أن يقدم الاعتذار المطلوب لأهالي ضحايا عمليته الفدائية، وإعلان ندمه كمخرج لإطلاق سراحه منذ زمن طويل، تماماً كما كان بإمكانه تسريع إطلاق سراحه عبر بيع إنجاز تحريره لغير الجهة التي رآها الأجدر بهذا الإنجاز.
أين أنتم من كل تلك المواقف الغريبة عن سلوككم؟ وأنتم من أنتم.
أنتم بالتحديد من قصدكم سيد المقاومة حين قال عن سمير إنه الحجّة على كل الذين يتركون مواقعهم وينقلبون على تاريخهم وتاريخ آبائهم وأجدادهم.
هذا قولنا لهؤلاء..
أما أنت يا سمير.. يا من قلت يوم تحريرك بأنك ما عدت إلا لتعود إلى فلسطين، فنقول لك:
كما حملتك أمواج البحر إلى شاطئ فلسطين يوماً.. ستحملك إليها هذه المرة أمواج متلاطمة من مقاومين ملهمين بأسطورتك الخالدة.
 نعم.. ستعود حقاً.
 

العدد 1104 - 24/4/2024