سورية التي نريد

 أثارت المبادرة الروسية بطرح مشروع دستور لسورية المستقبل، ردود أفعال غاضبة من مختلف الأطراف السورية، وإذا اعتبرت بعض الأطراف المبادرة تدخلاً لا مبرر له في شأن سيادي سورية، فقد رحبت أطراف أخرى من المعارضة السورية المدعومة من الخارج بالمبادرة، فرصة ذهبية للهجوم على الدور الروسي في الأزمة السورية.

ما الذي حمل الدبلوماسية الروسية المشهود لها ببعد النظر والحصافة على تقديم تلك المبادرة، وهي لا يخفى عليها أن صياغة دستور لأي بلد هي مهمة وطنية بامتياز، وليست من السذاجة للاعتقاد أن طرح المبادرة لن يثير حساسية بين الأطراف السورية وحفيظة بعضها الآخر، وإذا كان الغرض من طرح المشروع الروسي هو لـ(الاستئناس) به و(تحفيز النقاش ووضعه على المسار الصحيح)، فقد كان من الأجدى تقديمه كمنطلقات ومبادئ دستورية وليس بصيغة مشروع دستور؟

على أي حال.. وضع نشر المقترح الروسي للدستور السوري المقبل جميع السوريين أمام مسؤولياتهم التاريخية للتعبير عن رأيهم حيال توجهاته، وإذا كان من غير المطلوب أو المرغوب به مناقشة تفاصيل المقترح الروسي للدستور، مادة مادة، فإن توضيح تصوراتهم لملامح سورية ما بعد الأزمة هو أمر في غاية الأهمية والضرورة في الظروف الراهنة، إذ تجري محاولات من أطراف عدة لتشويه حقيقة سورية وتاريخها ودورها.. وحسناً فعل الحزب الشيوعي السوري الموحد بطرح رؤيته حول مستقبل سورية بعد الأزمة، مفتتحاً بذلك النقاش العام حول قضايا المستقبل.

في رؤية الحزب الشيوعي السوري الموحد لمستقبل سورية بعد الأزمة الكثير من التوجهات الجديرة بالاهتمام، تتعلق بالسياسة العامة والإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ولا أعتزم بطبيعة الحال تناول جميع طروحات الرؤية في هذه المقالة، بل سأكتفي بالإضاءة على جوانب هامة منها.

تعتبر الرؤية (أن المهمة المركزية والأساسية والموضوعية أمام البلاد، شعباً وجيشاً وحكومة وجبهة، هي الدفاع عن الوطن وطرد الإرهابيين الغزاة، وتحرير الأجزاء التي ما تزال تحت سيطرتهم، والحفاظ على وحدة الوطن أرضاً وشعباً من مخاطر التقسيم)، والرؤية محقة في ذلك، فطرد الإرهابيين الغزاة وتحرير الأجزاء المحتلة يأتي في مقدمة أولويات الحفاظ على سورية.

على أن الرؤية لم تغفل أهمية (العمل المستمر من أجل حل سياسي يوقف نزيف الدم والدمار)، والرؤية على صواب حين تشدد على (إن الدفع باتجاه الحل السياسي المترافق مع الدفاع عن الوطن وتطهيره من الغزاة، ونهوض سورية اقتصاداً ومجتمعاً وسياسة وثقافة وحرية وديمقراطية، إنما يحتاج إلى تغيرات عميقة في بنية النظام السياسي تؤمّن اتباع النهج الديمقراطي التعددي القائم على مبدأ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين السوريين، بما يضمن الوصول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية والتقدمية).

ومن أجل تعزيز قدرة المواطنين على الصمود والمقاومة للوقوف إلى جانب الجيش العربي السوري في دفاعه عن الوطن، دعت الرؤية إلى إنقاذهم من الفساد وجنون الأسعار.

لقد أصابت الرؤية في تسليط الضوء على مخاطر الفساد، بإنقاذ المواطنين من براثن رموز الفساد وتجار الأزمة، فذلك لا يقل أهمية عن إنقاذهم من أيدي الإرهابيين الغزاة والفساد الذي كان أحد دوافع الحراك السياسي في سورية، غدا أحد العوامل المؤدية إلى استمرار الأزمة. إذ إن السياسات والممارسات الاقتصادية الخاطئة للحكومات السورية المتعاقبة قد أفسحت المجال لرموز الفساد وتجار الأزمة لمراكمة الثروات على حساب معاناة المواطنين. وهكذا ست سنوات ونيف مضت ومعاناة المواطنين تتفاقم يوماً بعد يوم، وأعداد شهداء الجيش العربي السوري تتزايد يوماً بعد يوم، وثروات رموز الفساد وتجار الأزمة تتضاعف يوماً بعد يوم!

وتؤكد الرؤية أن المواطنين (في أسوأ أوضاعهم المعيشية، ومطلوب الآن تدابير فورية تؤدي إلى إنزال الأسعار بشكل معتبر، ويفضل اتخاذ هذا القرار بإجماع المنتجين والمستوردين والمستهلكين). والرؤية محقة حين تدعو إلى الربط بين مفهومي التنمية والعدالة الاجتماعية، إذ يلاحظ ترابط وثيق بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، فقد أظهرت نتائج بعض الدراسات التي طبقت على عدد من البلدان النامية وجود علاقة بين سوء توزيع الدخل والثروة من ناحية، والنمو الاقتصادي من ناحية أخرى، على المدى البعيد، ولا يقتصر تأثير التوزيع العادل للدخل والثروة على رفع معدل النمو، بل يزيد من تماسك النسيج الاجتماعي ويقوي الانتماء إلى الوطن، ويؤكد الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستغليتز أنه لكي يعمل الاقتصاد بشكل جيد لابد من وجود تماسك اجتماعي، مضيفاً أن الإنصاف يقتضي أن يشارك الفقراء في المكاسب حين يزدهر المجتمع، وأن يشارك الأغنياء في الآلام حين يقع المجتمـــــــع في أزمة.

وتعتبر الرؤية بحق أن الاقتصاد التعددي الذي تقوده الدولة عبر خطط تنمية اقتصادية واجتماعية هو النموذج الاقتصادي الأنسب للبلاد، فالمهام التي تستدعيها عملية التنمية ينوء بعملها القطاع الخاص بمفرده، بل لابد من قيام الدولة بدور قيادي فاعل ومؤثر في الحياة الاقتصادية، ويتراوح هذا الدور بين التوجيه والتحفيز، والتدخل المباشر في الإنتاج والاستثمار عبر مؤسساتها الاقتصادية، ولا يعني تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي إلغاء آليات السوق، بل يساعد على زيادة كفاءتها وتصويب انحرافاتها.

الحفاظ على وحدة الوطن أرضاً وشعباً من مخاطر التقسيم، تدعو الرؤية إلى (الوقوف بحزم أمام أي ظاهرة أو نزعة انفصالية أو تقسيمية في سورية وفي أي بلد عربي تحت أي مسمى أو تبرير كالفيدرالية وغيرها)، وتتجلى أهمية هذه الدعوة في ضوء مخططات جهات إقليمية ودولية معادية تعمل على تقسيم سورية إلى كيانات صغيرة تقوم على عصبيات عنصرية وطائفية ومذهبية تتوافق مع طبيعة الكيان الإسرائيلي العنصري وتخدم أغراضه ومصالح وتدور في فلكه.

لقد كانت سورية دائماً الرقم الصعب في وجه الأطماع الصهيونية – الأمريكية ومخططاتها الرامية للهيمنة على المنطقة، وعندما عجزت عن احتواء سورية في مشاريعها، عمدت إلى استغلال التنوع الإثني والطائفي والمذهبي القائم في مجتمعها لتأجيج الاختلاف بين مكوناتها وتشجيع قيام حركات انفصالية.

تاريخياً كانت مكونات المجتمع السوري تعيش معاً في وئام، وتشترك معاً في بناء الوطن والدفاع عنه، وفي التاريخ السوري شواهد لشخصيات من أقليات إثنية وطائفية ومذهبية احتلت مواقع قيادية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتبوأت مناصب عالية في الحكم والسلطة والقوات المسلحة وغدت رموزاً وطنية.

متأثرين بأخطاء ارتكبت من قبل بعض الأجهزة التنفيذية السورية، ومحرضين من قبل بعض الجهات الخارجية، انساق عدد من قيادات بعض الأقليات غير العربية لتبنّي نزعات انفصالية، أو تقسيمية في سورية، وغاب عن بال تلك القيادات أن النزعات والحركات الانفصالية تصب في نهاية المطاف في طاحونة مشاريع الدول الساعية إلى تدمير سورية والهيمنة على المنطقة، وأن الدول الراعية لها لا تكترث بأحلام الحركات الانفصالية ولا تتوانى عن التخلي عنها إذا وجدت في ذلك مصلحة لها. وفي التاريخ أمثلة عديدة لحالات تخلت فيها الدول عن الحركات الانفصالية التي رعتها.

على أن الرؤية إذ تشدد على الوقوف بحزم أمام النزعات الانفصالية، فهي تطالب  بالنظر بروح تقدمية إلى مطالب الأقليات القومية وحقوقها، وخاصة حقوقها الثقافية، وحقوق المواطنة والمساواة الكاملة وفق الدستور، والتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها سائر السوريين، والتأكيد على نبذ أي نزعة عنصرية في معالجة هذه المطالب، وغني عن القول أن من شأن تمتع الأقليات غير العربية بحقوقها ولاسيما الثقافية أن يعزز تماسك النسيج الاجتماعي في سورية.

ترافق تأجيج العصبيات العنصرية والطائفية والمذهبية مع الهجوم العنيف على مفهوم العروبة كهوية جامعة لمكونات النسيج السوري المتنوع للتخلي عنها، إذ دون هذه الهوية الجامعة يغدو المجتمع السوري أشبه بقطع موزاييك متفاوتة الأحجام متنافرة الألوان مختلفة الأشكال متناثرة لا رباط بينها، ما يجعل من المتعذر التعايش فيما بينها، بمعنى آخر بزوال الهوية الجامعة (العروبة) تطفو على السطح الهويات الفرعية التي تدفع كل منها باتجاه الانفصال، ما يفضي في نهاية المطاف إلى تقسيم سورية.

خلافاً لما يروج له من أطراف دولية وإقليمية ومحلية، العروبة ليست عنصرية تقوم على الدم، بل إنسانية تستمد وجودها من التاريخ والثقافة المشتركة.. هي رابطة سمحة منفتحة لا مكان فيها للتمييز، والتفوق والسيطرة والعزلة والإقصاء، تحتضن في كنفها أجيالاً فأصبحواً عرباً في اللغة والثقافة والتاريخ.. العروبة ثقافة أسهم في إغنائها رموز فكرية من خلفيات غير عربية، وهي لا تنفي التراث الثقافي والتاريخي غير العربي ولا تتعارض معه.. العروبة حضارة شارك في بنائها أقوام من خلفيات إثنية مختلفة جنباً إلى جنب مع العرب، والعروبة تاريخ طويل من النضال من أجل الاستقلال والعدالة والحرية، ورفض مشاريع الإلحاق والهيمنة والتبعية للخارج ومصادرة القرار الوطني المستقل، ومقاومة الظلم والاضطهاد، شارك في صنعه رموز وطنية من خلفيات إثنية وطائفية ومذهبية مختلفة.

لذلك من غير المفهوم، بل من غير المقبول، استبعاد صفة العروبة عن اسم الدولة السورية في المقترح الروسي للدستور السوري. ففي سورية تفتح الفكر العروبي، ومنها انطلقت الحركات العربية التي رفضت التجزئة التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو، وناضلت من أجل الوحدة في إطار مشروع حضاري عربي، سورية والعروبة صنوان لا يفترقان، سورية العربية هي التي تناهض المشاريع الصهيونية الأمريكية لتفتيت المنطقة والهيمنة عليها، سورية العربية هي التي تحارب الإرهاب والمجموعات الإرهابية المسلحة المدعومة والممولة من أطراف دولية وإقليمية، سورية العربية هي التي ترفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية، سورية العربية هي التي تقف إلى جانب المقاومة العربية في فلسطين ولبنان لاستعادة الأراضي المحتلة، سورية العربية هي التي تتمسك بالجولان السوري، وتصر على تحريره من الكيان الإسرائيلي المغتصب، سورية العربية هي التي ترفض التأجيج العنصري والطائفي والمذهبي وتدعو إلى كلمة سواء.

لهذا كله تتعرض سورية للحصار والقتل والتدمير.

العدد 1105 - 01/5/2024