نظرة إلى تاريخ النقابات العمالية

على مرّ التاريخ البشري، كانت القوى العاملة وما زالت وقود الحروب والصراعات والتقلبات والأزمات الاقتصادية المتعددة حتى يومنا هذا، رغم أنها الحامل الأساسي لكل متطلبات النهوض بالإنسان والمجتمع والدول على اختلاف نهجها الاقتصادي سواء كان اشتراكياً أم رأسمالياً، صناعياً أم زراعياً.

ففي عام 1886 كان الإضراب الشهير الذي سُمّي قضية (هايماركت) الذي طالب العمال فيه بتحديد ساعات العمل بما لا يزيد عن ثماني ساعات يومياً، الأمر الذي لم يَرُقْ للسلطات وأصحاب المعامل، خصوصاً أن الدعوة للإضراب حققت نجاحاً جيداً وشلّت الحركة الاقتصادية في المدينة، مما دفع بالشرطة لإطلاق النار على العمال المضربين، وقد ذهب ضحية تلك الحادثة الشرارة العشرات من أولئك العمال.

لقد تجاوزت قضية هايماركت أسوار أميركا وبلغ صداها العالم، وقد أحيا المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية ذكراها في العاصمة الفرنسية باريس عام 1889 وأصبح الأول من أيار احتفالاً دولياً للإنجازات الاجتماعية والاقتصادية للحركة العمالية.

ولقد سبق ذلك تشكيل ما يُعرف اليوم بالنقابات العمالية، وذلك للحفاظ على حقوق الطبقة العاملة ورعاية مصالحها في مواجهة أرباب العمل، فمع تطور النهضة الصناعية في أوربا وظهور الآلات البخارية، وبعد تطبيق نظام (الأسيجة) الذي سمح لملاك الأراضي وضع أيديهم على أراضي الفلاحين وطردهم منها بعد تحويل هذه الأراضي إلى مراعي محمية، نزحت أعداد هائلة من الفلاحين إلى المناطق الصناعية مما أدى إلى توافر قوى عاملة رخيصة محرومة من جميع وسائل العيش، وانتشر البؤس والآفات الاجتماعية كالبطالة والفقر والإجرام وغيرها، إضافة إلى انتشار اضطهاد العمال واستغلالهم مع عدم توفر ضمانات السلامة للعمال، فأصبحوا يموتون أو يصابون بعاهات دون وجود نظم الضمان الاجتماعي.

كل هذه الظروف المأساوية دفعت العمال لتنظيم صفوفهم وبدؤوا بتشكيل صناديق الزمالة وصناديق التعاضد فيما بينهم درءاً للأخطار الاجتماعية، ثم ما لبثت تلك المنظمات البدائية أن تطورت لتصبح منظمات أكثر اتساعاً وذات أسس تنظيمية وأنظمة داخلية، واقتصرت أهدافها في البداية على الدفاع عن حقوق أعضائها ومصالحهم، وزيادة الأجور، ثم اكتسبت النقابات صفة سياسية وأصبحت تشارك في قضايا النهوض الاقتصادي والتنمية والإصلاح السياسي.

فقد تكونت الجماعات الأولى للعمال من الحرفيين في بريطانيا في سنة1720م وبرزت الاتحادات المهنية الأولى تحت تسمية (الجمعيات)، مثل (جمعية الخياطين) في لندن و(جمعية عمال الصناعات الصوفية) في المنطقة الغربية من بريطانيا. أما في فرنسا فقد أقيمت التعاونيات التي اقتصرت أهدافها على زيادة الأجر، كذلك قام شكل آخر من التجمعات سُمي (الزماليات الفرنسية) التي كانت تضم عمالاً من أوساط مهنية مختلفة متجاوزين بذلك حدود المهنة، وكان قانون( لوشابليه) عام 1791م أحد النصوص الأولى التي أشارت إلى وجود تنظيمات الأُجراء الدائمة في فرنسا. وفي ألمانيا لم تولد النقابة التعاونية كما هو في فرنسا، ولكن بتأثير من فرنسا بدأ عمال بعض الحرف وعلى الأخص أولئك الذين يعملون في صناعة القبعات بإقامة تنظيمات عمالية كانت على شكل نقابات وبدأت الأشكال النقابية بالظهور.

خلال الفترة من 1844 – 1918م بدأ التنظيم النقابي بتشكيل تنظيمات عمالية نقابية ذات طابع دولي تخطت الحدود القومية وتجاوزت الأطر الوطنية للبلد الواحد من أجل حماية الطبقة العاملة، وكانت من الواجهات الرئيسية للشيوعية العالمية والأحزاب الاشتراكية، وقد أعطت ثورة أكتوبر في روسيا دفعة جديدة لهذه الاتحادات التي بدأت تنشر فروعها في جميع أنحاء العالم، وقد كانت النقابات إحدى وسائل الشيوعية في الانتشار في العالم وبالذات في دول العالم الثالث.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تنادت النقابات في العالم إلى تأسيس اتحاد نقابي عالمي يجمع كل النقابات في العالم، وبدعم من الكتلة الاشتراكية تأسّس اتحاد النقابات العالمي في باريس عام 1945م مما دعا الكتلة الرأسمالية ممثلة في دول أوربا الغربية وأمريكا إلى تأسيس اتحاد نقابي آخر أطلق عليه الاتحاد الدولي للنقابات الحرة.

لقد أصبحت النقابات في عصرنا الراهن ذات تأثير كبير على مجريات الأمور التي تحدث على الساحة الدولية، إذ انضم إليها مئات الملايين من العمال، فهي إلى جانب نضالها في سبيل حقوق الطبقة العاملة الكاملة المشروعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… إلخ، فإنها ناضلت من أجل قضايا الساعة المهمة مثل مساندة نضال الشعوب المقهورة لأجل تحررها الاقتصادي والسياسي، والنضال ضد العولمة الرأسمالية الحديثة، وضد التمييز العنصري والجوع والأمراض في البلدان النامية، كما أنها وقفت ضدّ تقليص المساعدات الاجتماعية وزيادة الضرائب، وضدّ الحروب وتجارة الأسلحة وسياسات الحكومات التي تنتهج سياسة إرهابية تنتهك حقوق الإنسان، كما أنها ناضلت في سبيل السلام العالمي وضد نشوء حرب نووية مدمرة تكون أولى نتائجها نهاية الجنس البشري على الأرض.

وفي سورية، قادت النقابات العمالية السورية نضال العمال من أجل حقهم في التنظيم والحرية النقابية، وعملت على إصدار قانون عمل جديد يضمن حقوقها في العمل، ومن أجل ثماني ساعات عمل، وأجور عادلة وتوفير رغيف الخبز بأسعار مناسبة، وقامت بإضرابات واسعة شملت مختلف الصناعات والمهن لتحسين الأجور ووقف التسريح التعسفي وحق الإجازة مدفوعة الأجر، وتعويضات نهاية الخدمة والمعالجة الطبية والسكن والنقل وحماية الأطفال وعدم تشغيل النساء بأعمال غير ملائمة، وحماية الاقتصاد الوطني ومواجهة الشركات ذات الامتياز، وإقامة علاقات نقابية عربية ودولية وغيرها من النضالات..

غير أن الطبقة العاملة السورية عملت في ظروف صعبة ودون حماية تُذكر.. وبقيت منخرطة مع أرباب العمل في التنظيم النقابي (نقابات الحرف والمهن)، التي حددها قانون الحرف العثماني، وقد التصقـت بعض قياداتها النقابية بالكتلة الوطنية وببعض الأحزاب السياسية التي تشكّلت في ثلاثينيات القرن العشرين.

وقد استخدمت الطبقة العاملة سلاح الإضراب والاعتصام والاحتجاج في مواجهة الرأسمالية السورية، ووضعت السلطة في موقف حرج تجاه القضايا المطلبية، وبقيت مساندة العمال والنقابيين للكتلة منحصرة بتأييد مطلب الاستقلال، ومساندة الجهود الوطنية من أجل تحقيق هذا الاستقلال الناجز دون ارتباط سورية بأية اتفاقيات مع مستعمريها، ومع ظهور القوى والأحزاب السياسية التقدمية الجديدة، ونهوض الحركة الجماهيرية، تعزز أكثر فأكثر كفاح الطبقة العاملة ونقاباتها واتحاداتها، وبدأ تحوّلها نحو الأفكار القومية والاشتراكية وأحزابها. وجاء تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية في 18 آذار 1938 ليكون حدثاً بارزاً في تاريخ الطبقة العاملة والحركة النقابية العمالية السورية، وتطوراً نوعياً في مسيرتها الطويلة، تطوراً عمّق مفاهيم النقابية الطبقية والسياسية وجسد وعي الطبقة العاملة لدورها ومصالحها، وأسس للانطلاقة المستقبلية التي أثبتت فيها الحركة النقابية وجودها فصيلاً طبقياً ووطنياً حليفاً لقوى التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، وقد أعطى تأييد العمال والنقابيين للأفكار القومية والاشتراكية فرصةً لامتداد هذه الأفكار في أوسع قطاعات الشعب، مما قوّى هذه الأحزاب ومكّنها من لعب دور وطني هام ساهم في تصعيد النضال من أجل الاستقلال والأحداث والتطورات اللاحقة.

ولكن، ونتيجة لسيادة الاقتصاد الحر الذي فرضته الرأسمالية العالمية خياراً لزيادة أرباحها من جهة، وطريقاً لحل أزماتها الاقتصادية المتتالية، وفرض تلك السياسات على عموم دول العالم الثالث، فقد فقدت معظم النقابات العمالية دورها المؤثّر والهام سواء على مستوى حقوق العمال، أو حتى على صعيد قضايا وطنية هامة، لتصبح غالباً مجرد أداة سياسية في يد تلك الأنظمة، وبالتالي لتغدو في كثير من الأحيان ضدّ مصلحة العمال الذين سعوا هم لتأسيسها.

العدد 1104 - 24/4/2024