واشنطن تبدأ العد التنازلي

تصريح وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، في الخامس عشر من آذار الجاري، بأنه سيتعين على واشنطن، في نهاية المطاف، التفاوض مع الأسد، وتصريح مدير المخابرات الأمريكية – السي. آي . إيه – قبله بيوم واحد بأن سقوط الأسد يفتح الطريق لسيطرة داعش على سورية، هو اعتراف مدوّ بفشل المخطط الأمريكي لإخضاع سورية، حسبما خططت واشنطن مع أتباعها. أما الادعاء بأن واشنطن تفضّل النظام الحالي في سورية على داعش، فهو تزييف مطلق للحقيقة ورياء مكشوف تدحضه الوقائع على الأرض، سواء في سورية أو العراق. لكن من الواضح أن واشنطن تريد استعمال ور قة داعش في الحالتين: إذا انتصرت داعش، وإذا فشلت.

من المعروف أن سورية تعرّضت، منذ 2011 لثلاث موجات كبرى من التآمر الدموي، بقيادة واشنطن وبالتعاون الفعال مع الأنظمة الرجعية في المنطقة، وبخاصة دول الخليج وتركيا وإسرائيل. الموجة الأولى، أسندت واشنطن قيادتها للشيخ حمد بن جاسم، وزير خارجية قطر ورئيس وزرائها، الذي كان يصول ويجول، بمحفظته المتخمة بالدولارات، لشراء الذمم وتجنيد المرتزقة للقتال في سورية، مع سيل من التصريحات، من مختلف الجهات المتورطة في التآمر،  بحتمية سقوط النظام في سورية، خلال أيام أو أسابيع. وحين استنفد حمد شحنته بالفشل، بدأت الموجة الثانية من المؤامرة على سورية، حين حوّلت واشنطن المهمة إلى الأمير بندر بن سلطان، مدير المخابرات السعودية آنذاك. وجرّب الأمير بندر حظّه، فحصد في النهاية الفشل نفسه. وكانت الموجة الثالثة باعتماد داعش مباشرة وتقديم كل أشكال الدعم لها، علّها تفلح فيما عجز الآخرون عنه، مع توسيع ساحة عملها لتشمل سورية والعراق معاً.

في البدء، سهّل الأمريكيون لداعش الاستيلاء على أسلحة أربع فرق عسكرية عراقية في الموصل، لتبسط سيطرتها خلال أسابيع معدودة على مساحة تجاوزت خمسين ألف كيلو متر مربع. وسبق ذلك ورافقه ضخّ إعلامي غير مسبوق حول قوة داعش التي لا تقهر! متبوعاً بتعميم إعلامي واسع لجرائمها الوحشية والمروعة التي اقترفتها، لشلّ إرادة المقاومة لها. في الوقت ذاته، كانت واشنطن مطمئنة إلى عجز الجيش العراقي عن الوقوف في وجه هذا الإعصار الإرهابي المتوحش. فبعد تفكيك الجيش العراقي السابق، قام بريمر، حاكم العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003 بإعادة تشكيله على أسس طائفية وإثنية، مع إلغاء خدمة العلم فيه، التي تعزز شعور الولاء والانتماء للوطن، لا للطائفية أو الإثنية. على صعيد آخر، امتنعت واشنطن، حتى الآن، عن تسليم الجيش العراقي المعدات الحربية التي دفع ثمنها، وبخاصة طائرات أف 16 ومروحيات أباتشي لمقاتلة داعش، بينما الأخيرة تتلقى المزيد من السلاح والعتاد إما عبر طائرات (مجهولة!) أو شحنات (بالخطأ!) من طائرات أمريكية.

لكن فشل الرهان على داعش أصبح بادياً للعيان. ففي العراق أسهم في ذلك بشكل ملموس فتحُ طهران لمخازن أسلحتها للوطنيين العراقيين، وتسليمُ موسكو الفوري لهم عشر طائرات سوخوي ومروحيات قتالية. ومعلوم، أن داعش عرفت أولى نكساتها في عين العرب السورية. وهكذا يبدو أن واشنطن استنفدت ما في جعبتها من أدوات لكسر إرادة الشعب السوري وإخضاعه لمشاريعها في المنطقة، وإعادة السيطرة الكاملة على العراق. وإذا كانت واشنطن قد توصلّت للاستنتاج بفشل رهانها على داعش، شأن من سبقوها، فإنها تبذل كل جهودها لدعم بقاء هذه العصابة الدموية، لا سيما بعد أن انضوت تحت اسمها عصابات إرهابية في أكثر من بلد مستهدف من واشنطن.

وإذا كانت تصريحات وزير الخارجية ومدير المخابرات الأمريكَّيين السالفة الذكر هي إقرار معلن بسقوط الرهان على داعش، شأن من سبقوها، فإنها – أي هذه التصريحات – ترمز إلى تطلع واشنطن لاستخدام سقوط هذا الرهان، لتغطية فشل رهاناتها المتكررة على كسر إرادة الشعب السوري الوطنية، وبخاصة، حين تدعي واشنطن، رياء، أنها تفضّل النظام الحالي في سورية على داعش! كما تعبر هذه التصريحات، في الوقت ذاته، عن تطلّع واشنطن للتدخل، عبر وسائل أخرى، في نتائج أية مصالحة بين السوريين أنفسهم: نظاماً ومعارضة، وهو تطلّع لا مكان له.

وعلى كل حال، ينبغي أخذ هذا الإقرار بالفشل الأمريكي تجاه سورية في إطار التطورات الهامة في المنطقة، وفي المقدمة منها الاحتمالات الواعدة بالاتفاق حول الملف النووي الإيراني، فهذا الاتفاق الموعود يمثل، أيضاً هزيمة وتراجعاً لسياسة واشنطن في المنطقة، بخاصة إذا أخذنا في الحسبان أن المفاوضات الماراتونية حول الملف النووي الإيراني كان هدف واشنطن من ورائها ليس السلاح النووي المزعوم، وإنما تحييد طهران في القضايا العاصفة في المنطقة.

إن التصريحات الأمريكية السالفة الذكر، مع الاحتمالات المتزايدة حول الاتفاق على الملف النووي الإيراني هي، ضمن مؤشرات أخرى، بشائر مرحلة جديدة في المنطقة، تتحوّل فيها شعوبها من الدفاع إلى الهجوم؛ وهذا بالذات هو سرّ سُعار حكام إسرائيل والخليج وتركيا!

العدد 1105 - 01/5/2024