نحو مؤتمر وطني للحوار

 بادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أهمية الدعوة التي وجهها المكتب السياسي إلى القراء، لتقـديم الآراء والمقترحات، حول رؤيته المتعلقة بمستقبل سورية بعد الأزمة، وقد تضمنت كما تقول: (بعض الأفكار والرؤى التي تهم الشعب والوطن). ولا شك أن هذه الأفكار والرؤى جديرة بالنقاش المعمق والمتنوع، وإذا أتيح لها ذلك، يمكن أن تغتني وتتحول إلى وثيقة هامة من وثائق الحزب.

إن الحرب الدائرة فوق تراب الأرض السورية التي دخلت عامها السابع، لم تشهدها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد جعلت وطننا مسرحاً دامياً ومحطماً، وهذه الحرب مفعمة بالغموض، مسربلة بالأسرار، وخلط الأوراق، والأكاذيب، والالتباس، والتآمر، والدسائس الدولية والإقليمية، وهذا ما يجعل التنبؤ بمآلها عصي المنال. أذكر على سبيل المثال أنني كنت في عداد وفد من السويداء التقى ديمستورا، وسألته: هل يرى ضوءاً في آخر النفق؟ وهل ثمة حل قريب للكارثة السورية؟ فقال: إذا كنت تؤمن بالله فإن الله لا يعرف الإجابة على هذا السؤال. ولعل ذلك يتعلق بعدم معرفة من يدير هذه الحرب، التي حولت مدننا، وقرانا، إلى كومة من الأنقاض، والأطلال.

ثمة من يرى أن اليانكي ومجمعه الحربي الأمريكي يمسك دفة هذه الحرب، ويوزع الأدوار على كل القوى المتحاربة.وثمة رأي آخر يرى أن الذي يغذي هذه الحرب بالوقود، ويصب الزيت على نارها، ويطيل أمدها، هو الكيان الإسرائيلي، ذلك لأنه المستفيد الأكبر منها. وهناك آراء أخرى، وفي جميع الحالات لا يزال سيف ديموقليس مسلطاً فوق رؤوسنا، منذراً باستمرار هذه الحرب، التي ليس من أمرها ما هو ثابت مؤكد إلا الغموض المطلق الذي يكتنف نتيجتها، حرب تعرّض سورية بل المنطقة العربية برمتها للدمار والتفتت، وإعادة صياغتها بصورة لا تتفق ومصالح شعوبها.ولهذا فكلما عرفنا وامتلكنا المعطيات الدقيقة، المتعلقة بما يجري في بلادنا، وأهداف وغايات الذين يقومون به، ومتى سيرتوون من دمائنا ويتركوننا وشأننا، تجنّبنا التوقع، والاستشراف، والتخمين المتأرجح.ومن الطبيعي أن ينعكس ظلال ذلك كله على ما نكتب، وعلى ما جاء في رؤية الحزب، بحيث يمكن للقارئ أن يجد ما يقوله في طول المقدمة، ومنهجية البحث، وتبويبه، وعناوينه، ويمكن منهجياً أن تكتفي الرؤية بمقدمة مختصرة، ثم تنتقل إلى وضع تصور عن سورية المستقبل.وبهذا الصدد يمكن المساهمة وتقديم الآراء والأفكار التالية:

وقف الحرب والتصدي لعلاج آثارها

لعل البشرية كلها مدينة للحركة الشيوعية التي كان (السلم العالمي) شعارها الأهم، وقد أسهمت في إنقاذ كثير من دول العالم من شر الحروب، فالحرب سمة ثابتة من سمات الإمبريالية، ولقد تنبأ لينين بالحرب العالمية الثانية قبل موته عام 1924 وسّمى بعض دولها، مؤكداً أن ضواري الرأسمالية العالمية، سوف يجرّون البشرية كلها إلى حرب كونية بهدف اقتسام الدول والشعوب. وقد كتب ماركس عام 1870 في كتاب الحرب الأهلية في فرنسا: (إن الحرب الهائلة الراهنة، ستكون نذيراً بحروب عالمية، أشد هولاً، وستؤدي في كل بلد، إلى انتصارات يحرزها فرسان السيف وأسياد الأرض والمال). والحرب الدائرة في سورية اليوم مفتوحة على احتمالات كثيرة، تديرها الرأسمالية العالمية، والصهاينة، وأسياد المال، وتجار الحروب، وقد تكون نذيراً لحروب أخرى، وهي مأساة إنسانية قل نظيرها في التاريخ، حرب استجرت الأنصار، والمحازيب، والقتلة، والمجرمين، والإرهابيين، من شتى بلدان العالم وقاراته، ليبرهن هذا النوع غير المسبوق من الحرب على الترابط الأخطبوطي، في عصر العولمة بين مصالح الدول، وتضارب هذه المصالح، ولقد دفعت هذه الحرب إلى الوجود بظواهر ومظاهر فوق التصور، وأظهرت أنه في أتون المعارك لا وزن للمبادئ، والقيم، والأعراف، والأخلاق، فقد بعثت الاقتتال الداخلي ليقطع الوشائج الإنسانية، ويمزّق بكوارثه المروعة النسيج الاجتماعي الحميم، الذي صنعته عقود وقرون من العيش المشترك.وأيقظت الأحقاد الطبقية والطائفية، وأظهرت أنها عدوة الطفولة، وقد تناقلت الفضائيات صور أطفال سورية المشردين والمبعثرين والموتى.

ودللت الحرب على أنها مزراب ذهب لمافيا الفساد.ولم تبق جريمة تجسد الرعب والوحشية، وتظهر القسوة المسعورة، المفعمة بالانتقام، لم ترتكب في أتون هذه الحرب المدمرة. وعلى الرغم من ذلك كله، ففي التاريخ البشري أمثلة تُعبر عن رفض الحرب والتمرد على الأوامر الحربية، وتُعبر عن التعاطف الإنساني بين المتحاربين يقول أندريه مالرو: (أحد الأحداث التي تبدو كأنها نوبات جنون التاريخ، هجوم الألمان بالغازات السامة على الروس على نهر الفيستول، في الحرب العالمية الأولى، غير أن الجنود الألمان الذين كُلفوا باجتياح الخنادق الروسية، ما لبثوا أن عادوا، وهم يحملون الجنود الروس المصابين بالغاز، إلى وحدات الإسعاف بغية إنقاذهم). ثمة في الحرب السورية وقائع تشير بوضوح إلى تعاطف السوريين، تجسد الإخاء بينهم، وقد تمثل بإنقاذ الجرحى، والمصابين وتقديم المساعدة لهم، وتجنب قتلهم. ولعل العبرة من ذلك أن على السوريين أن يدركوا أن حياتهم رهن قدرتهم على دفن هذه الحرب الجهنمية، وعلى العالم كله عاجلاً أم آجلاً أن يدفن مشعلي الحروب.

أجل، على السوريين جميعاً قبل غيرهم الإقدام بشجاعة على إيقاف هذه الحرب، واعتبار ذلك مهمة مقدسة، واعتماد كل السبل لإزالة آثارها وأهمها:

1 – رفع الحصار عن المدن، وتقديم الأمان والعون والمساعدة لقاطنيها. ووقف أي تعدٍّ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم.

2 – الإفراج عن كل المعتقلين، والموقوفين السياسيين، والمخطوفين، وجميع الأبرياء الذين كانوا ضحية الاقتتال، والأعمال الحربية.

3 – خلق المناخ الطبيعي والإنساني، الذي يسهّل عودة ملايين المهجّرين خارج الوطن، وداخله، إلى مدنهم وقراهم، وتقديم التعويضات المالية التي تمكنهم من ترميم بيوتهم وإصلاحها.

4 – رعاية جميع الأسر السورية التي راح أبناؤها ضحية هذه الحرب الكونية، وتقديم المساعدة الإنسانية لهم، وتقديم العناية الدائمة للجرحى، والمعوقين.

5 – تقديم التسهيلات التي تساعد على إعادة المؤسسات الصناعية، والشركات المهجرة إلى مصر، وتركيا وغيرهما من الدول، إلى الوطن. ولا شك أن تحقيق ذلك يمهد الطريق للدخول في الحل السياسي الناجع، والخلاص من قوى الإرهاب بكل أشكاله، ويزيل الصعوبات التي تقف عثرة أمام تجاوز الأزمة، ويساعد على بناء سورية المستقبل.

أية سورية يريد السوريون؟

يجمع الساسة السوريون على أن سورية بعد الأزمة، لن تكون كسورية قبل الأزمة، وقد قالت قيادة حزبنا مع بداية الحراك السلمي، إن صيغة الحكم القائمة لم تعد ملائمة، وبصورة أوضح فإن الطابع الشمولي الأمني للدولة، وسياسة التبعيث التي استمرت نصف قرن ونيف، جعلت الجبهة الوطنية التقدمية، والحكومة، ومجلس الشعب، والمنظمات الشعبية والنقابية، والاتحادات، ومؤسسات الدولة المختلفة وغيرها من التنظيمات والهيئات، تدور في فلك الحزب الحاكم، وتنفذ توجيهاته السياسية، وتتماهى مع قراراته وتعلن الولاء الدائم له. مثل هذه الصيغة تقادمت، ولم تعد قابلة للاستمرار والحياة. والصيغة التي يدور الحديث عنها اليوم، سواء تمثلت في حكومة وحدة وطنية، أو هيئة حكم انتقالي، أو أية صيغة أخرى، لا بد أن يتجسد فيها وجود فعلي لسلطة ومعارضة في آن معاً، يتعايشان جدلياً، وينظم العلاقة بينهما الدستور والقانون. ويجري من خلال تلك الصيغة التداول السلمي للسلطة.

يقول محمود رياض في مذكراته: (إن جمال عبد الناصر قد أجرى يومي 3 و4 آب بعد هزيمة عام 1967 اجتماعات مع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وقال أمامهم: إن النظام المطلق القائم على الحزب الواحد قد فشل، ولا بد من إقامة نظام جديد، على أساس ديمقراطي، يسمح بقيام معارضة إلى جانب الاتحاد الاشتراكي، ويكون لها صحافتها، تعبر عن رأيها لتحرر جميع الناس من الخوف عند إبداء الرأي، فمثل هذا النظام سيحول دون قيام حكم ديكتاتوري في المستقبل، يسيطر فيه فرد، أو مجموعة على مقدرات البلاد، مؤكداً أن استمرار النظام القائم سيقود إلى المجهول). كان من الطبيعي كما يقول رياض أن يطلب أعضاء اللجنة التنفيذية تأجيل إقامة نظام جديد، بحجة العمل لإزالة آثار العدوان، ليأتي السادات، وتدخل مصر في نفق مظلم.

في ضوء ذلك كله، لا بد من أخذ العبر من المآسي التي حلت في بلداننا العربية كلها، لعجزها عن بناء الدولة المدنية. ومن نافل القول أن سورية المستقبل لا بد أن تنهض من بين الأنقاض بسواعد أبنائها جميعاً، وتقوم على تنفيذ المهمات التالية:

1 – بناء دولة وطنية، ديمقراطية، تعددية، علمانية، وتقدمية.. دولة مستقلة عن الدين خادمة للمجتمع، وليست سيدة له.

2 – الفصل بين السلطات الثلاث، واحترام القضاء وحياده، على أن يكون رئيس مجلس القضاء الأعلى رئيس محكمة النقض، ويكون أحد أعضائها رئيس المحكمة الدستورية.

3 – تعزيز دور السلطة الرابعة (الإعلام) ليكون إعلاماً تعددياً، وديمقراطياً، يقدم الوقائع والحقائق بموضوعية، ومسؤولية، يتيح لكل القوى السياسية والحزبية داخل السلطة، وخارجها، أن تعبر من خلاله عن رأيها، وتعرض برامجها ومواقفها المتعلقة بحياة الناس. لقد عرفت سورية كما هو معروف خلال سنوات الحكم الديمقراطي بين عامي 1954 و1958 إعلاما تعددياً، وديمقراطياً تمثل بحرية التعبير، وإصدار اثنتين وخمسين صحيفة يومية.

4 إقرار مبدأ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان، الذي يحقق المساواة التامة بين النساء والرجال، ويؤمن تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، ويصون حقوقهم وحرياتهم في التعبير، وإبداء الرأي والمشاركة في الحياة السياسية دون خوف من حسيب أو رقيب.

5 – إلغاء المحاكم الاستثنائية والمقامة بفعل الحرب، ومنع إطالة التوقيف دون محاكمة والكف عن الاعتقال الكيفي، والتعذيب،، وتبييض المعتقلات من سجناء الرأي، والتوقف عن اعتقال الناس لمجرد آرائهم السياسية.

6- إقامة التحالف بين الأحزاب والقوى والوطنية والتقدمية على أسس جديدة، تضمن التكافؤ والمساواة، وتنفيذ المهام الوطنية المشتركة، وتصون النشاط المستقل لكل حزب، في ضوء أهدافه، وبرامجه استناداً إلى قانون عصري للأحزاب، يضمن حرية العمل، والتنظيم، والاجتماع.

7- التحضير المناسب، ومنح الوقت الكافي، لإجراء انتخابات برلمانية نزيهة، تسمح باختيار أشخاص يمتلكون الجرأة، ويمثلون الشعب قولاً وعملاً، انتخابات تحول دون وصول أصحاب النفوذ المالي، والحكومي، وممثلي البرجوازية البيروقراطية والطفيلية. انتخابات تجسد بصورة فعلية سيادة الشعب. وقد جاء في المادة الأولى من الدستور السوري عام 1950: السيادة للشعب ولا يحق لأي فرد أو جماعة أن تدعيها.

8- إقامة نظام اقتصادي وطني، يجري من خلاله النهوض بالمشاريع الحيوية التي دمرتها الحرب، والحفاظ على الدور السيادي للدولة في القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والطاقة، وتأمين المياه، والكهرباء، والسكن، والهاتف، لأبناء الوطن، واتباع سياسة ضريبية عادلة تخفف الأعباء عن الجماهير الشعبية، والربط بين التنمية والعدالة الاجتماعية، ودعم القطاع العام بقيادات نزيهة، وعدم السماح بجعله بقرة حلوباً للقطط السمان، ومافيا الفساد..

9 – صيانة وحدة البلاد المهددة بشبح التقسيم، والحفاظ على استقلالها الذي حققه السوريون بدمائهم وتضحياتهم، وتضافر جهود المواطنين لاستعادة الأراضي السورية المحتلة، والسعي الحثيث كي تعود سورية إلى سابق عهدها، دولة محورية في الدفاع عن حقوق العرب، وموئلاً للأحرار، ومركزاً لإشعاع الفكر التقدمي والإنساني.

إن إنجاز هذه المهام وغيرها، قد يتطلب كما جاء في ختام رؤية الحزب عقد مؤتمر وطني للحوار، يضم ممثلي القوى السياسية الوطنية، والهيئات الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية، وممثلي المعارضة الوطنية، بغية التوصل إلى عقد اجتماعي جديد، يرسم ملامح سورية الجديدة، التي ينعم فيها شعبنا بالحرية، والديمقراطية،والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والعيش الآمن. ولا بد من تذليل الصعوبات التي تعترض هذا الهدف النبيل، ولا نعتقد أن ثمة طريق آخر ينقذ بلادنا وشعبنا أفضل من هذا الطريق.

العدد 1104 - 24/4/2024