من الصحافة العربية العدد 668

التفاوض مع سورية آتٍ

عبارة (علينا أن نتفاوض في النهاية)، التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الأحد الماضي في مقابلة بثّتها قناة (سي بي أس) ما زالت تُشعِل جدلاً عالمياً وإقليمياً واسعاً. وهي كشفت حقيقة مهمّة مفادها أن لا وجود لحل عسكري، بل مخرج سياسي. وكل التعقيبات والتفسيرات التي صدرت عن تركيا وشركاء غربيين لواشنطن، اعترفت في ثناياها بأن الطريق الوحيد لوضع نهاية لمعاناة الشعب السوري، والخروج من مأزق الاستنزاف، هو الحل السياسي، وإن غُلِّفَ الاعتراف بعبارات جرت العادة على ترديدها في الحديث عن الأزمة السورية. كيري قال في تصريحاته إن بلاده (ستضطر للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد في شأن انتقال سياسي في سورية)، ولم يقل إن بلاده ستبدأ عملية تفاوضية. فهذه الأخيرة جرّبت جنيف بنسختيه الأولى والثانية وفشلت. ومن غير المعقول أن كيري لا يفرّق بين العبارتين. والتطمينات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية بعد تصريحاته، ربما، قصدت تخفيف الصدمة لدى الشركاء الذين لم يُؤخذ رأيهم في توجُّه واشنطن الجديد. لكن من يقرأ بتمعّن تطمينات جوش إرنست، الناطق باسم البيت الأبيض، سيجد أنه حسم الجدل، وكشف هدف الإدارة من وراء تصريحات كيري، إذ قال إرنست: (أولويتنا هي التعاطي مع الخطر الذي يمثله المتطرفون الذين يستغلون الفوضى في سورية). كأنه يقول إن الاعتراف بنظام الأسد أو عدم الاعتراف به، صارا وسيلة الحل، وليسا غايته.

لفهم الغضبة الأوروبية من تصريحات كيري، تجب العودة إلى تذمُّر الفرنسيين، وبعض الدول الأوروبية، من توجّهات المفاوضات الأمريكية مع إيران حول مشروعها النووي، والتي كشفت خوف الأوروبيين من حصول الشركات الأمريكية على الدثور والأجور كثمن للصفقة مع طهران. وجاءت تصريحات كيري لتعزز تلك المخاوف. يمكن قراءة هذا الجدل الذي أحدثته تصريحات الوزير الأمريكي كجزء من الضغوط التي تحدّث عنها كيري، وربما هي ضغوط مضادة من الأوروبيين على واشنطن لتخفيف تنازلات الجانب الأمريكي في مفاوضاته مع إيران.

لا شك في أن واشنطن وشركاءها الأوربيين، وبعض الدول الإقليمية المؤثّرة في الأزمة السورية، أصبحوا مدركين أن لا مفر من إنهاء الحرب الأهلية في سورية، وأن نزع فتيل العنف من يد المتطرفين، الذين يستغلون الفوضى للاستمرار والتمدد، أصبح الهدف المقبل.

الأكيد أن مفاوضات على طريقة جنيف لإنهاء حرب معقّدة، دخلت عامها الخامس، لم تعد مجدية. ويصعب الرهان على معارضة غير متجانسة، وليس لديها مشروع موحد للحل، فضلاً عن أن بعضها بات طرفاً في نزاعات مع دول إقليمية مؤثرة.

داود الشريان

(الحياة 18/3/2015)

 

العرب وأسطورة القوة الأمريكية!

يدرك كثير من العرب أن أجزاء مهمة من عالمهم تبدو في مسار الخروج عن السيطرة. لكن ما لا يفهمه كثير منهم هو السبب وراء غياب الدور الأمريكي أو ضعف تأثيره. ويعزى ذلك، على وجه الدقة، إلى تشبث بعضهم بأساطير الحكمة والقوة الأمريكية. ومن ثم فهم يعتقدون أن الحالة الراهنة أمر متعمّد.

ولعل استمرار مثل هذا الفهم ناجم عن مشاعر ضعف تقترن بقبول أسس الرواية الأمريكية. فنحن الأمريكيون نَصف أنفسنا في العادة بالـ (حالة استثنائية) و (الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها)، ونتفاخر دوماً بخروجنا منتصرين من حربين عالميتين، وبالتغلب على الاتحاد السوفياتي لنبقى القوة العظمى الوحيدة. ونحن نتفاخر أيضاً بأننا أول من أرسل الإنسان إلى القمر، وبالتطورات التي حققناها في مجالات الطب والتكنولوجيا التي استفادت منها البشرية بأسرها.

وفي ضوء قبول بعض العرب تصورنا لأنفسنا على هذه الشاكلة، يتساءلون: إذا كان بمقدور الولايات المتحدة فعل ذلك كله، فلماذا تسمح بأن تكون لإيران اليد الطولى في العراق؟ ولماذا أجازت استمرار سفك الدماء في سوريا طوال هذه المدة؟ وكيف باركت إطاحة الديكتاتور الليبي، ثم تركت الدولة هناك للحرب الأهلية؟ ولماذا تُواصل السماح لإسرائيل بإحكام قبضتها على الفلسطينيين؟

ويضيف هذا كله كثيراً من الالتباس إلى المشهد المرتبك أصلاً. وقد استنتج كثير من العرب أنه إذا تفككت المنطقة، فإن المستفيدين هم (المارقون)، بينما تغض أمريكا الطرف، ومن ثم فإن صناع السياسات الأمريكية، إما انهم وراء ما يحدث، أو أنهم سعداء به لأنهم يخدم مصالحهم.

وقد سمعت تعليقات بعض العرب الذين زعموا أن الحرب الأمريكية على العراق، بغض النظر عن فشلها، قد حققت هدفها الاستراتيجي. وطبقاً لهذه الرؤية، فإن الغرض من تلك الحرب كان التخلص من صدام حسين لا إرساء دعائم دولة ديموقراطية تقدمية، إضافة إلى تحرير المارد الإيراني من قمقمه. ولعل ذلك هو ما حدث حقيقة. إلا أني لا أعتقد للحظة أن أي شخص في إدارة بوش كان ذكياً بالقدر الكافي ليفكر وينفذ ذلك السيناريو شديد التعقيد. ولكن لأن هذه التفسيرات الخيالية تبدو منطقية في ظل الفوضى، فإنها تجد من يصدقها.

على أن أمريكا ليست دائماً ذكية وقوية. وهذا ما يؤكده تفسير السلوك المتهور لإدارة بوش. دعونا نتذكر ما زعمه مخططو حرب بوش بأن العراق سيكون (لقمة سائغة)، وأننا سننتصر في غضون ثلاثة أسابيع، وأننا لن نحتاج لإبقاء قوات هناك لأكثر من ستة أشهر، وبتكلفة لا تزيد على ملياري دولار، وأننا سنلقى ترحيب الفاتحين، وأن الديموقراطية التي ستولد ستكون شعلة مضيئة في المنطقة، وأن القيادة العالمية الأمريكية ستترسخ طوال القرن الحادي والعشرين.

من الضروري أن يدرك القادة العرب أن عليهم الإمساك بزمام المبادرة وبناء قوة عسكرية تجهز على تنظيم (داعش). كما أن عليهم الاستثمار في إعادة بناء اقتصادات المنطقة، واستخدام نفوذهم السياسي في حل الصراعات. وحين يحصل التحول من الاعتماد على الغير إلى الاعتماد على النفس، يحق لهم الإصرار على نيل دعم الولايات المتحدة كدولة حليفة، لا كمنقذة تمسك وحدها بأوراق القوة كافة.

جيمس زغبي

(السفير 19/3/2015)

العدد 1105 - 01/5/2024