باص «النعر» الداخلي

مقدمة لا بد منها: النعر لغةً صوت يخرج من الخيشوم (الأنف)، لكننا نستميح حراس اللغة باستعماله في المعنى الدارج أي بمعنى النقر نقرة خفيفة على كتف الشخص أو ظهره لتنبيهه لأمر ما…  وتستعمل أيضاً في التعبير عن حوادث السيارات عندما يكون هناك تصادم خفيف بين سيارتين فيقال: نعر السيارة.. والله أعلم.

باصات النقل الداخلي التي تتبع لعدة شركات استثمارية تكاد تحتكر خطوط النقل الداخلي في دمشق، فقد تفرغت باصات الدولة أو ما بقي منها لمهام كبرى، تقتضيها طبيعة المرحلة.

وبعد أن كانت الدولة تطبع بطاقات خاصة لباصاتها يقوم المواطن بشرائها ووضعها في حصالات خاصة بالباصات كثيراً ما كانت تتعطل ليصبح الركوب مجانياً.. استغنت هذه الشركات، الباحثة عن الربح أولاً وأخيراً، عن هذه التكاليف الإضافية، فطبعت دفاتر إيصالات وزعتها على سائقيها، يقوم المواطن الصاعد من الباب الأمامي بتسديد الليرات العشر واخذ الإيصال من السائق الذي تحول إلى (جابٍ) أيضاً.

ما يحصل أن كثيراً من الناس يضطرون في أوقات الأزمة  ومعظم أوقاتنا أزمة في هذه الأيام بسبب اشتداد التآمر طبعاً  إلى الصعود من الباب الخلفي ولا يستطيعون الوصول إلى السائق الجابي بسبب تراكم البشر.. فيتبعون طريقة إرسال العشر ليرات بطريقة النعر.. ينعر الراكب (أو الراكبة)  الذي بجانبه ويعطيه المبلغ فيناوله هذا  للذي يليه بنعرة أيضاً.. وهكذا في الإعادة يعيدون البطاقة من السائق بالطريقة نفسها.

لذا ولذا هذه مهمة جداً على قول دريد لحام  أقترح تسمية هذه الباصات بباصات النعر الداخلي، ودمج هذه الشركات المتعددة الأسماء والشارات تحت اسم (الشركة الوطنية للنعر الداخلي) لأن دمج الشركات والوزارات أصبح موضة العصر عندنا.

بقليل من التأمل نجد أن للنعر فوائد كثيرة، فهو يخرجك من أحلامك التي تحلق فيها وأنت واقف تتمسك بكلتا يديك بأحد الأعمدة المنصوبة فيعيدك إلى واقعك الجميل، وتعرفون أن الأحلام تودي بصاحبها خصوصاً إذا كانت كبيرة.

من فوائد النعر أيضاً نشر جو اجتماعي أسري بين سكان هذا الباص، إذ إن المواطن الدمشقي يمضي الجزء الأكبر من يومه في هذه الباصات بعد انتشار الحواجز بأنواعها وأشكالها وإغلاق كثير من الشوارع والطرق، فنعر شخص ما يرفع الكلفة بينك وبينه، وإن كان من الجنس الآخر فهناك احتمالات مفتوحة لتفاقم هذه الألفة والمودة ونشوء علاقات وطيدة قد تنتهي بالزواج و(نيال من جمع رأسين بالنعر).

من ميزات النعر أيضاً أنه يساهم في توطيد دعائم الوحدة الوطنية، فالنعر لا هوية طائفية أو قومية أو مناطقية له، فترى ابن حمص ينعر ابن طرطوس، وبنت دير الزور تنعر ابن السويداء، وابن القامشلي ينعر بنت اللاذقية مثلاً.. وهكذا تزول الحواجز التي يريد المستعمرون الحقراء والإمبرياليون القذرون وضعها بين أبناء الشعب الواحد وفق فرق تسد الاستعمارية الموروثة كابراً عن كابر، وتتصلب الوحدة الوطنية الفولاذية التي تحطمت  وتتحطم على صخرتها الصوانية كل مؤامرات الاستعمار.. ليبقى (الاستحمار) وحده ملك الساحة.

أخيراً وليس آخراً، كما يقول جماعة المحللين السياسيين الذين تكاثروا كالفطر في أيامنا السود هذه، النعر أنواع أو درجات تتعلق بالبيئة التي ينتمي إليها سكان الباص، فنعر باصات مشروع دمر وباب توما مثلاً ناعم هادئ خجول لا تكاد تشعر به متبوع باعتذار، بينما النعر في باصات المخيم ونهر عيشة والدوار الجنوبي فهو ببساطة الفقراء ووضوحهم، ويذكرك بالأغنية التي تقول: ما بيتدغدغ ابن الفلاح.

العدد 1105 - 01/5/2024