في البدء… كانت العتمة

لا تكتمل الحياة إلا إذا مرّت قبل كل شيء بظلمة داكنة تغمرها إلى حين، قبل أن تخرج إلى النور. كما يغمر الموج شواطئ البحار، وكما يلفّ الصدف اللؤلؤ والمرجان، وكما يكفّن الليل فجراً في طريقه إلى الاكتمال والولادة.

وكأن العتمة خميرة لا ينضج العجين من دونها، أو كغيمة سوداء اشتعل فيها البرق فأمطرت.

ألم يكن الجنين يوماً ما داخل ظلمة داكنة، يعيش ويتنفس ويحيا، قبل أن يحين موعد خروجه لملاقاة ضوء النهار؟ ألم تكن سنابل القمح مدفونة تحت التراب، قبل أن تنمو وترتفع حباتها لمعانقة نور الشمس والورود والأزهار والياسمين وحبات البلح والبلوط؟

ألم يكن الطين يحتضنها ويحميها، قبل أن تشق الأرض بهدوء ودونما مقاومة لتتحد مع الضوء ولتصبح فيما بعد وروداً متفتحة وأشجاراً عالية؟

ثم إن القلب الذي يمدّ الجسم بالحياة بنبضه المستمر، ألا يقضي عمره (مقفوصاً) بين الأضلاع ينبض في عتمة مستمرة؟!

وجميع الأفكار الكبيرة والأحاسيس والعواطف والخواطر المبدعة والقصائد الجميلة، ألم تكن في يومٍ ما محبوسة داخل الرأس، ومضغوطة ومحاصرة جيداً ريثما تختمر وتنضج في العتمة؟ ألا يخرّب الضوء أحياناً الحياة قبل اكتمالها؟ أليس لكل حياة وقت للخروج، ووقت للنضوج والاكتمال؟ أيجوز أن نكسر البيوض بحثاً عن الفراخ قبل موعد خروجها، أو نبحث عن عطر الوردة بتقطيع البذرة وتشريحها؟

لا شيء ينضج ويكتمل في الحياة إلا إذا لامسته العتمة، وعانقه الظلام. فالعتمة ضرورية جداً، لكن إلى حين، فلا يجوز أن تبقى البذار مدفونة إلى الأبد تحت التراب، ولا يصح أن يظل الجنين داخل رحم أمه، وإلا ماتت الأم واختنق الوليد.

إن الأفكار والرؤية العميقة، والقصص المدهشة، والروايات العظيمة والخطط والتطلعات مهما بلغت من الرقي والإبداع، تبقى قليلة الفائدة، ولا معنى لها ولا طعم إذا بقيت داخل الظلام، وبين أقفاص السجون المعتمة. كذلك بذرة الوردة وحبة البلوط، ستبقى بذاراً جافة وخاوية إذا لم تمسك أوراقها النور، ولم يلامس ثمارَها ضوءُ الشمس.

ومثلما لا يوجد كبير في الحياة إلا ويتمّمه صغير، كذلك هي الحياة، لا تكتمل إلا بتعاقب الضوء والعتمة عليها.

إن العتمة هي الشقيقة الكبرى للضوء، فمن دونها لا يغلي بركان ولا يثور زلزال، ولا يختمر عجين، ولا ينمو جنين، ولا تورق وردة، أو تزهر شجرة.

العتمة لا بد منها في بداية الحياة، فهي التي تحتضن البيضة قبل أن تفقس، وتخمّر الأفكار وتنضجها قبل أن تخرج إلى الورق لمواجهة العالم والبقاء فيه.

ألم تكن الأرض ذات زمن تقبع في ظلمة حالكة؟ لكن الحياة كانت أقوى، فأخذت من ظلمة الأرض ما يعينها على الخروج، وسُلّماً لترتفع عبره نحو الشمس. وبتعاون العتمة والنور معاً تولد شرارة الحياة، فكل منهما يقوى بالآخر، كما تقوى الأصابع بالأكف، والحبر بالأقلام، والسيوف والخناجر بقبضات الرجال الأبطال، والقلوب الكبيرة بالعيون المبصرة.

العدد 1105 - 01/5/2024