فوكوياما يتحدى ويحدد الفكر العربي!

منذ نشوء الفلسفة قديماً وهي تصنع أطروحة النهاية للتاريخ البشري، متعمدة تثبيت أفكارها وترسيخ المبادئ الأساسية لتطور المجتمعات على أمواجها دون غيرها. وتشكل نهاية التاريخ لكل فلسفة المرحلة الأخيرة من التوقعات والأمنيات التي يتمناها الفلاسفة للفوز بكأس السيطرة الأيديولوجية، لذلك تعد كخاتمة لموضوع التطور ونهاية تراكم أحداث ووقائع الحركة البشرية بحسب كل منها. فمن الفلسفة الأبيقورية والرواقية ونهاية التاريخ في تحقيق السعادة الكاملة للأفراد ومنها السعادة الجماعية للمجتمعات، مروراً بالفلسفة الإلهية في نهاية التاريخ بالجنة والنار، إلى الهيغلية، وصولاً إلى نهاية التاريخ عند فوكوياما. وليس من العبث أن تتصادم هذه النهايات، لأن ولادة الجديدة تعتمد نقد القديمة، أي من الأرضية الجوهرية للمعرفة تنطلق هذه الفلسفات بنقد سابقاتها لصنع فكرها الجديد ومنه نهاية جديدة للتاريخ.

وبما أننا نعيش في واقع رأسمالي، فلا بد من تحليل بنية نهاية التاريخ الرأسمالية في هذا الواقع، والتي تمسنا بشكل مباشر على أعقاب الأحداث الأخيرة في المنطقة والعالم. تنتهي فكرة المفكر الياباني_الأمريكي فرنسيس فوكوياما بكتابه (نهاية التاريخ) -بنتائج عظيمة المصلحة- بأن الرأسمالية هي النقطة الأخيرة التي يمكن أن يصل إليها أي مجتمع في العالم. فما بعدها هو رأسمالية (رغم تغير المظهر إلا أن الجوهر الرأسمالي هو هو). وعلى كل من يريد الوصول إلى التطور اللحاق بالدول الكبرى الصناعية لا غير، من خلال تحقيق الديموقراطية أولاً، ومن ثم تأتي الحداثة على نحو غير واعٍ… وأعطى أهمية للمساعدات، أو بالحقيقة لفرض المساعدة بالقوة الغربية في تحقيق هذه الشروط للدول المتخلفة، ومنها الدول العربية في بناء نموذج الديموقراطية الغربية فيها. وهو ما أعطى مسوغاً للولايات المتحدة بالحرب في أفغانستان والعراق مثلاً، لتحقيق مثال الديموقراطية في الدول ذات النظم الاستبدادية، وهنا يقول المفكر العربي الطيب التيزيني: (إن تحقيق الديموقراطية في العراق بهيمنة شيعية، ها هنا، تفصح عن نفسها الفكرة الناظمة لأيديولوجيا نهاية التاريخ الفوكويامية، وهي استجابة لما بعد الحداثة العولمية في مطلبها التفكيكي، تفكيك الهويات الكبرى والمثمرة تاريخياً، ومن ثم تفكيك ما هو مفكك).

إذن هذه النهاية الرأسمالية لما بعد الرأسمالية (كمراحل للتطور)، لا تعدو أن تكون قاعدة لإسقاط الهوية الوطنية والقومية وجعلها من الهويات التي استنفدت تاريخياً. وبنفس الوقت تمكين الحكم الطائفي. ومن شأن هذا وشأن غيره من العوامل الفاعلة في الفضاء العربي، أن يؤسس لمشروع حروب أو حرب أهلية بين الطوائف تمتد إلى بلدان الجوار وتنتهي بفناء شعوبها وتخليصهم مما هو لهم.

ولكن ما نلاحظه في الأحداث المتتالية في المرحلة الجديدة التي تمر بها دول الوطن العربي حالياً، هو ما يؤسس لفكر الأحداث اليومية لا الدراسة الفكرية العلمية لشروط الواقع، ولذلك لا يمكن أن نعي إذا كانت نهاية التاريخ لهذه الأحداث صادرة عن جوهر الواقع أم مؤدلجة وفق مصالح خارجية. فما برهن عليه التاريخ، من ناحية، هو فشل الفكر العربي في مشاريعه الثلاثة الكبرى الماضية، وهي (الديني_ الاشتراكي_ القومي)، وفشل من الناحية الثانية الفكر الرأسمالي في نشر الديموقراطية، التي كانت ترجمتها إلى العربية لفظياً لا جوهرياً (بالواقع) كما رأيناها في العراق، وبأساليب القوة والقسر، والتي لم تنتج إلا الخراب والتدمير عدا التقسيم الداخلي والاقتتال.

لذلك نرى أن البساطة والسرعة هي التي تقود الواقع العربي في هذه المرحلة، وهي ذاتها مرتكزات التطور الحديثة للعالم الرأسمالي، وهي الانتقال من المعقد الفلسفي إلى السهل والمحسوس انتقالاً سريعاً. هذا ما يأخذ من السياسة العربية- الغربية الحيز الكبير في عملية التغيير الحالية، بنقل السلطة التي اكتسبتها السلطة السائدة على مر العقود، إلى سلطة الرأسمال والإعلام وشركات التنمية الخليجية الجديدة…، التي سوف تظهر للعيان على نحو محسوس بعد فترة وجيزة، أو بعد وضع الأسس العريضة لسمات المجتمع الجديد، والتي ستعتمد على عنصري السرعة والبساطة في التعامل بالمجتمعات العربية.

العدد 1104 - 24/4/2024