عودة «الرجل المريض»

ربما كانت أكبر موجة هجرات شهدتها المنطقة هي فترة الحرب العالمية الأولى (1914  1918) وما تلاها من سنوات عجاف، خصوصاً أن (الرجل المريض)  الاحتلال العثماني  كان في احتضاره الأخير يسوق شباب البلاد إلى (السفر برلك) ليقدمهم ضحايا على مذبح تشبث الإمبراطورية المريضة بخيط حياة، ويقطع الغابات ليقدمها فحما لقطارات جيشه.

لم يبق ثمة زاد، أصبح خبز الشعير ترفاً لا يناله إلا القليل من أصحاب الأطيان والأملاك.. العجائز الذين اجترحوا الحياة في هذا الجحيم وعاشوا رووا حكايات تشيب لها الولدان.

من جهة أخرى شهدت الفترة نفسها أكبر جريمة إبادة جماعية في التاريخ قام بها الرجل المريض نفسه، وأقصد مجازر الأرمن الشهيرة، هذا الشعب المسالم الخلوق الدؤوب المتقن عمله. وقد أثيرت نعرات التعصب الديني بين أبناء الشعوب التي كانت تقاسم الشعب الأرمني الحياة والأحلام والأرض في سبيل تنفيذ هذه الجريمة الكبرى ضد الإنسانية..

حينذاك هاجر كثير من أبناء هذه الأرض إلى منافٍ بعيدة، خصوصاً دول أمريكا.. القارة الجديدة الفتية.. ونشأ المهجر هناك بكل معالمه.. أدب مهجري، جمعيات، روابط.. إلخ.

الآن يقف السوريون بالمئات بل بالآلاف أمام مراكز الهجرة والجوازات، خاصة في دمشق، يكفي أن تمر في منطقة البرامكة نهاراً لتجد الأرصفة والشوارع المجاورة لفرع الهجرة والجوازات يملؤها سوريون من مختلف المحافظات، تعرفهم من لباسهم ولهجاتهم، فأبناء المدن المنكوبة يلجؤون إلى دمشق كمرحلة لخروجهم إلى خارج البلاد، هرباً من الموت والجوع والذل اليومي.

تروى عشرات القصص عن تكلفة جواز السفر الآن في سورية، وهي لم تكن تتجاوز ألفي ليرة سورية. الآن على من يريد جواز سفر مستعجل، أقصد بعد أيام من طلبه، أن يمد يده إلى (عبه) ليحصل عليه تجاوزاً للدور وعن طريق سماسرة ووسطاء كثيرين.

وقد روى لي أحد المدمنين على الوقوف هناك من الساعة الرابعة صباحاً ليحجز دوره أمام كوى الموظفين أن ظاهرة جديدة انتشرت الآن غير ظواهر الفساد العلنية  والتي تحولت أصلاً قبل الأزمة إلى ثقافة مجتمعية في بلادنا  هي ظاهرة أناس من الكثيرين الذين لا يجدون عملاً يتفقون مع بعض المضطرين على الوقوف بدلاً منهم في الدور من الليل حتى الصباح ليبيعوهم (دورهم) في الحصول على الأوراق مقابل مبلغ مالي. وقد شهدت مصادفة مفاوضات بين رجلين أحدهما (زبون) يريد الحصول على جوازات سفر لنساء من قريباته، وآخر (شغيل) سيقف في الدور بدل إحداهن. وكان المبلغ الذي اتفقوا عليه هو ستة آلاف لكل جواز؟! طبعاً هذا المبلغ فقط للحصول على دور وتبقى (أسعار) المراحل الأخرى أكبر وأشنع..

للأسف.. الآن أيضاً هناك من يدفع الشباب وغير الشباب إلى ساحات الموت، ويحرق الغابات، وما بقي منها يضطر الناس إلى قطعه للتدفئة في ظل انقطاع المازوت، والأمور تنذر بمجاعات قادمة. أما النزوح الجماعي إلى خارج سورية فقد تجاوز المليون، والداخلي تجاوز الملايين، وتثار النعرات الدينية والطائفية بين أبناء سورية مع نشوء ميليشيات مسلحة من كل الجهات ذات صبغة طائفية، وتحدث مجازر مروعة أيضاً تنذر بحصول إبادات متبادلة في حال تفاقم الوضع أكثر.

انتبهوا.. هناك (رجل مريض) يعيد سيرة السفر برلك،  لكن بصورة أفظع وأشنع قد تودي بسورية الوطن والشعب.

فلا تلوموا من يخرجون الآن ويبيعون كل ما بقي لديهم ليصلوا إلى بلد آمن يؤمن لهم عيشاً وفرصة عمل.

أدعو كل الآلهة أن أكون مخطئاً، وأن لا يحصل لسورية مكروه أكثر مما حصل حتى الآن. أحلم مثل ملايين السوريين بسورية جديدة حرة تعيد بناء ما تهدم من مدن ومنشآت، وما زهق من أرواح، وأن يصبح الرجل المريض مرة أخرى مجرد سيرة يرويها التاريخ ويحكيها العجائز الذين شهدوا (السفر برلك) السوري الجديد وأخطأهم الموت.. أطوي حلمي وأنام.

العدد 1105 - 01/5/2024