صحبة الكتب ومتعة القراءة

تخلق لنا قراءة الكتب عيوناً كثيرة، وتفتح قلوبنا على أشياء وأشياء، وتهدينا إلى الوعي والمعرفة، وكلما ازددنا اطلاعاً وتبحراً وغوصاً في بطون الكتب القيمة أعطانا ذلك شعوراً رائعاً بالقوة والطمأنينة.

إن المعرفة سيف قاطع، لا نحصل عليه إلا بعد القراءة، فقراءة الكتب تجعل من الفرد جماعة، ومن اليد أيدياً، ومن القلب الواحد قلوباً كبيرة، ومن الروح المنعزلة أرواحاً مجتمعة، تسبح في سماء لا حد لها ولا سقف.

بيد أن الكتب ستبقى قليلة الفائدة لمن قلّ عقله، وخفّت بصيرته، ورخصت أهدافه.

إنها كأي أرض، لا تعطينا إلا إذا تعبنا عليها وأعطيناها بحب ووفاء، وكلما كانت معرفتنا أكبر بتنظيف أرضنا وقلع أشواكها وديدانها، وحرثها جيداً، كان أجرنا أكبر.

وإن ما يهم من عملية القراءة هو هضم ما تبتلعه عقولنا، وتفسير ما يدخل قلوبنا..

ألا يحتاج القمح قبل أن يعجن إلى تنظيفه من السوس ثم طحنه جيداً؟!

أوَ لا تحتاج الجراح العميقة قبل خياطتها إلى تعقيم؟ والطرق الوعرة إلى إزالة حجارتها المسنّنة قبل تعبيدها بالأسفلت، ودهن الباب الحديدي ألا يحتاج أولاً إلى برده وصقله لتنظيفه من الصدأ العالق عليه؟

كذلك القراءة بحاجة إلى فهم وطحن كل كلمة قبل إدخالها إلى العقل والقلب، ليصار هناك إلى خبزها وجعلها طيبة المذاق، وذلك بإعادة إخراجها إلى الواقع على شكل كلام جميل، أو كتابة رواية جيدة، أو قصيدة شعر أو حتى رسم لوحة جميلة.

إن القراءة قد توحي للمبدع الحقيقي أشياء جميلة غير ما يقرأ، فالعنب طعمه غير النبيذ، والعجين مذاقه غير مذاق الخبز والكعك، والبيض المقلي غير البيض المسلوق، وبلع اللحم والحمص والعدس المطبوخ غير بلعه وهو لا يزال نيئاً أو جافاً. القراءة تشبه إلى حد ما تناول الطعام، فمنهم من يأكل بسرعة، فيبتلع ما يأكله دون أن يتذوقه، ومنهم مَن يأكل بهدوء، فيستمتع بمذاق طعامه، يتروّى فلا يبتلع الحصى مع العدس، ولا التّبر مع التراب.

يسهل علينا أن نتعلم كيف نأكل، ويصعب على الكثير أن يتعلموا كيف يتذوقون الطعام.

البلع شيء، والهضم شيء آخر، إنه الفرق بين الذيل والرأس، وبين الغصن المثمر والغصن اليابس، وبين العتمة والنور، والفحم الأسود والجمر المكتنز بالنار.

إن القراءة الحقيقية هي التي تتيح لنا أن نسرق من الزمن عمراً آخر، إنها تختصر مسيرات الحضارات، تقرّب بين الناس، وتعطينا  تجربة أعمارهم بأقل فترة ممكنة من الزمن، فنحصل على الثمرة جاهزة بقليل من الصبر والانتظار.

إن الإنسان يكبر وتتسع مداركه عندما يبدأ القراءة، وحين يقرأ سيعرف، والمعرفة أينما وجدت تولّد عزاً وقوة، فبنمو العقل ينفتح أمامنا عوالم جديدة وأكوان ساحرة، ومَن فاته تعلّم القراءة فقد أضاع ثلاثة أرباع عمره، ومَن عرفها فقد أضاف عمراً جديداً لحياته.

العدد 1105 - 01/5/2024