حُرّرت أسعار المواد… فاغتُصبت جيوبنا..!

عندما كانت أمي تصحبني معها إلى دكان المرحوم أبي هيثم لا لتشتري لي بعض اللعب أو عدداً من أكياس الشيبس والموالح والمكسّرات بل كي أساعدها في حمل بعض الحاجيات من صابون وزيت والقليل من السكر والأرز التي تدفع ثمنها بيضاً. في تلك الأيام لم نكن نعرف إلاّ طعم الحلاوة والهريسة من دكان علي الصالح بمناسبة انتهاء عمليات الحصاد التي كنّا ننتظرها بفارغ الصبر، كي نحصل على ما كنا نسميه (الخلاصة) أو بمناسبة عيد الحلوة. وأذكر أنّ والدتي كانت تربي طيور الديك الرومي والكثير من الدجاج. وكنت أستيقظ صباحاً كي أسرّح تلك الطيور إلى الجهة المقابلة لمنزلنا الطيني الهرم. وكان من جملة الطيور ديك رومي كبير ينفش ريشه معتبراً نفسه وصياً على بقية القطيع. وكنت أتساءل، بكل ما أحمل من براءة الطفولة، عن السبب الذي يدعوه لأن ينفش ريشه ويدور حول القطيع بعد أن ينمو عرفه ويتحول إلى اللون الأحمر القاني.

وكي لا أنحرف عن السبب الذي دعاني للحديث عن التجارة وتقديم البيض مقابل بعض الحاجيات سأعود إلى السبب الذي دعاني لكتابة ما أنا بصدد الحديث عنه. فافتحوا لي آذانكم واسترخوا وقاكم الله زيادة الأسعار التي لم تعد تطاق:

 القصة وما فيها أنني منذ أيام قرّرت أن أعرّج على مركز المحافظة للاستفسار عن مشكلة تتعلق بتحليق الأسعار هذه الأيام. وأستميحكم عذراً لأنني لن أتمكن من إخباركم بالموضوع، ولكن أعدكم بأن تجدوه على هذه الصفحة المشرقة ذات يوم. المهم عندما قابلت عضو المكتب التنفيذي المختص كان طيب القلب باش الوجه ومضيافاً أيضاً.

تبادلنا أطراف الحديث إلى أن دخلنا في لب المشكلة، وبدأت دفاعي عن المواطن المسكين وعن جيوبه المهترئة والأزمات القلبية ونوبات الصرع وحالات الجنون والهبل التي تنتابه بين الحين والآخر، وعن اختفاء بعض ذوي الدخل المحدود ليس بفعل الإرهابيين التكفيريين بل هرباً من نق الزوجات والبنين، لأن الزوج المسكين يغادر بيته إلى أي محل تجاري ويعود إلى المنزل حاملاً عدداً من أكياس الخضار والفاكهة (بندورة وخيار وبطاطا وتفاح وموزة أو اثنتين) لا يتجاوز الوزن القائم لما ذكرت عدد أصابع اليد بعد أن يكون قد دفع ربع مرتبه، فكيف سيقضي بقية أيام الشهر؟!

تركني صديقي أسترسل في الكلام دون أن يقاطعني، وكنت أعلم أنه يحضّر لي أجوبة خبيثة على كل ما يؤرقني ويدعوني للتفكير بأصدقائي من أصحاب الجيوب المهترئة وأصحاب الأزمات المتلاحقة التي ذكرتها قبل قليل. نهض وسحب ورقة من تحت زجاج المكتب وقام بنسخ صورة عنها وقدمها لي قائلاً: لن أخوض معك في جدال عقيم حول الأسعار والمواد المتوفرة والمقطوعة والتلاعب والاحتكار، بل أعطيك هذه الورقة آملاً منك قراءتها بتمعّن وروية، ثم إن وجدت لديك المزيد من الوقت كي نشرب فنجاناً من القهوة في مكتبي فأهلاً وسهلاً بك.

أنهيت كأس الشاي (ألم أقل لكم بأن صديقي مضياف)، وحملت الورقة وغادرت وأنا أنظر إلى بقية المواطنين الذين ينتظرون دورهم كي يدخلوا.

وصلت إلى البيت، وقبل أن أسمح لزوجتي بالتحقيق معي والسؤال عن كل هذه الفترة التي قضيتها خارج المنزل، أغلقت باب الصالون وأقفلته من الداخل ثم أخرجت الورقة من جيبي وبدأت أقرأ محتواها، فوجدت الآتي:

قرار رقم 642 تاريخ 2001 يتضمن المواد المحررة وتشمل:  المنظفات والصابون والشامبو ومعاجين الأسنان وفراشيها وأدوات الحلاقة ومكناتها وشفراتها والمحارم بأنواعها ومستحضرات التجميل والعطور والمكسرات ولانجري النسائي والبناتي أيضاً والألبسة الرجالية والنسائية والأحذية الرجالية والنسائية والمنتجات النسيجية والمشروبات الغازية والبوظة والقرطاسية والأدوات المنزلية والحواسب الإلكترونية! وقبل أن التقط شهيقي فوجئت بالقرار الثاني رقم 1561 من نفس العام ويتضمن بعض المواد التي سقطت سهواً على ما يبدو من التحرير وتشمل: الأجهزة الكهربائية بجميع أنواعها ومستلزمات البناء من سيراميك وبورسلان وحديد وبواري وخشب.. إلخ، إضافة إلى الأدوات الصحية ومستلزمات التمديدات الكهربائية والتمديدات الصحية والنظارات والطحينية للحلاوة الطحينية ومستلزمات صناعة الألبسة والأحذية.

وقبل أن أزفر صدمني القرار 995 تاريخ 2002 الذي يشمل لائحة محرّرة أيضاً وتتضمن: البرادات والغسالات والجلايات والقهوة وقطع تبديل السيارات والمدفئ والمكيفات والمحركات والغواطس الكهربائية ومكنات الخياطة والحصر والبسط والسجاد الصوفي والخيوط الحريرية والأجهزة الرياضية والأجهزة الزراعية والساعات.

أخذت نفساً عميقاً وشحطة متة باردة، وتابعت قراءة الورقة لأفاجأ بمواد محررة جزئياً وتشمل: حليب الأطفال ومستحضرات التجميل وأغذية الأطفال والأسمدة والمبيدات الزراعية والأعلاف (المفقودة هذه الأيام) واللحوم والحليب المجفف والأجبان والدفاتر المدرسية والألبسة المدرسية. ولم أستطع إكمال ما هو مكتوب في الورقة إذ هجمت عليّ ذئاب الحاجيات والأغراض وتطايرت الكراتين وأكياس النايلون والسلع من كل حدب وصوب، فشعرت بخدر ونمل يسري في جسدي وارتعشت عدت مرات، واصفرّت وازرقّت واسودّت الدنيا في وجهي، وشعرت أن رجالاً بهياكل عظمية ومعهم هراوات وعلى جماجمهم تيجان من ريش الديك الرومي، فتذكرت أمي والحلاوة والهريسة والمرحوم أبا هيثم ودكان علي الصالح والجهة المقابلة لمنزلنا الطيني، وبت أسمع عبارات الترحم والبكاء والدعاء لي بالمغفرة والعفو!. ووسط كل هذا الضجيج سمعت أحدهم يهمس:

رحمه الله!. كان دائماً يقول: ما حدا آكل الموس عالحدّين إلاّ الفقير!

العدد 1107 - 22/5/2024